كمال الدين و تمام النعمه ، جلد۲

شيخ صدوق ابى جعفر محمد بن على بن الحسين قمى قدس سره
مترجم: منصور پهلوان

- ۲۴ -


قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ لَئِنْ كُنْتَ لَا تَعُدَّ حَيَاةً وَ لَا غِبْطَةً مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعُدَّ مَا يَتَوَقَّعُ مِنَ الْمَوْتِ مَوْتاً وَ لَا تَرَاهُ مَكْرُوهاً قَالَ الْحَكِيمُ تَغْرِيرِي فِي الدُّخُولِ عَلَيْكَ بِنَفْسِي يَا ابْنَ الْمَلِكِ مَعَ عِلْمِي لِسَطْوَةِ أَبِيكَ عَلَى أَهْلِ دِينِي يَدُلُّكَ عَلَى أَنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ مَوْتاً- وَ لَا أَرَى هَذِهِ الْحَيَاةَ حَيَاةً وَ لَا مَا أَتَوَقَّعُ مِنَ الْمَوْتِ مَكْرُوهاً فَكَيْفَ يَرْغَبُ فِي الْحَيَاةِ مَنْ قَدْ تَرَكَ حَظَّهُ مِنْهَا أَوْ يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ أَمَاتَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ أَ وَ لَا تَرَى يَا ابْنَ الْمَلِكِ أَنَّ صَاحِبَ الدِّينِ قَدْ رَفَضَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِهِ وَ مَالِهِ وَ مَا لَا يَرْغَبُ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا لَهُ وَ احْتَمَلَ مِنْ نَصَبِ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُرِيحُهُ مِنْهُ إِلَّا الْمَوْتُ فَمَا حَاجَةُ مَنْ لَا يَتَمَتَّعُ بِلَذَّةِ الْحَيَاةِ إِلَى الْحَيَاةِ أَوْ مهرب [يَهْرُبُ‏] مَنْ لَا رَاحَةَ لَهُ إِلَّا فِي الْمَوْتِ مِنَ الْمَوْتِ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ صَدَقْتَ أَيُّهَا الْحَكِيمُ فَهَلْ يَسُرُّكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ الْمَوْتُ مِنْ غَدٍ قَالَ الْحَكِيمُ بَلْ يَسُرُّنِي أَنْ يَنْزِلَ بِيَ اللَّيْلَةَ دُونَ غَدٍ فَإِنَّهُ مَنْ عَرَفَ السَّيِّئَ وَ الْحَسَنَ وَ عَرَفَ ثَوَابَهُمَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ تَرَكَ السَّيِّئَ مَخَافَةَ عِقَابِهِ وَ عَمِلَ بِالْحَسَنِ رَجَاءَ ثَوَابِهِ وَ مَنْ كَانَ مُوقِناً بِاللَّهِ وَحْدَهُ مُصَدِّقاً بِوَعْدِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ الْمَوْتَ لِمَا يَرْجُو بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الرَّخَاءِ وَ يَزْهَدُ فِي الْحَيَاةِ لِمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَ الْمَعْصِيَةِ لِلَّهِ فِيهَا فَهُوَ يُحِبُّ الْمَوْتَ مُبَادِرَةً مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ إِنَّ هَذَا لَخَلِيقٌ أَنْ يُبَادِرَ الْهَلَكَةَ لِمَا يَرْجُو فِي ذَلِكَ مِنَ النَّجَاةِ فَاضْرِبْ لِي مَثَلَ أُمَّتِنَا هَذِهِ وَ عُكُوفِهَا عَلَى أَصْنَامِهَا.

قَالَ الْحَكِيمُ إِنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ يَعْمُرُهُ وَ يُحْسِنُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ إِذْ رَأَى فِي بُسْتَانِهِ ذَاتَ يَوْمٍ عُصْفُوراً وَاقِعاً عَلَى شَجَرَةٍ مِنْ شَجَرِ الْبُسْتَانِ يُصِيبُ مِنْ ثَمَرِهَا فَغَاضَهُ ذَلِكَ فَنَصَبَ فَخّاً فَصَادَهُ فَلَمَّا هَمَّ بِذَبْحِهِ أَنْطَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِقُدْرَتِهِ فَقَالَ لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ إِنَّكَ تَهْتَمُّ بِذَبْحِي وَ لَيْسَ فِيَّ مَا يُشْبِعُكَ مِنْ جُوعٍ وَ لَا يُقَوِّيكَ مِنْ ضَعْفٍ فَهَلْ لَكَ فِيَّ خَيْرٌ مِمَّا هَمَمْتَ بِهِ قَالَ الرَّجُلُ مَا هُوَ قَالَ الْعُصْفُورُ تُخَلِّي سَبِيلِي وَ أُعَلِّمُكَ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ إِنْ أَنْتَ حَفِظْتَهُنَّ كُنَّ خَيْراً لَكَ مِنْ أَهْلٍ وَ مَالٍ هُوَ لَكَ قَالَ قَدْ فَعَلْتُ فَأَخْبِرْنِي بِهِنَّ قَالَ الْعُصْفُورُ احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ لَا تَأْسَ عَلَى مَا فَاتَكَ وَ لَا تُصَدِّقَنَّ بِمَا لَا يَكُونُ وَ لَا تَطْلُبَنَّ مَا لَا تُطِيقُ فَلَمَّا قَضَى الْكَلِمَاتِ خَلَّى سَبِيلَهُ فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى بَعْضِ الْأَشْجَارِ ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ لَوْ تَعْلَمُ مَا فَاتَكَ مِنِّي لَعَلِمْتَ أَنَّكَ قَدْ فَاتَكَ مِنِّي عَظِيمٌ جَسِيمٌ مِنَ الْأَمْرِ فَقَالَ الرَّجُلُ وَ مَا ذَاكَ قَالَ الْعُصْفُورُ لَوْ كُنْتَ مَضَيْتَ عَلَى مَا هَمَمْتَ بِهِ مِنْ ذَبْحِي لَاسْتَخْرَجْتَ مِنْ حَوْصَلَتِي دُرَّةً كَبَيْضَةِ الْوَزَّةِ فَكَانَ لَكَ فِي ذَلِكَ غِنَى الدَّهْرِ فَلَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ مِنْهُ ذَلِكَ أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ نَدَماً عَلَى مَا فَاتَهُ وَ قَالَ دَعْ عَنْكَ مَا مَضَى وَ هَلُمَّ أَنْطَلِقْ بِكَ إِلَى مَنْزِلِي فَأُحْسِنَ صُحْبَتَكَ وَ أُكْرِمَ مَثْوَاكَ فَقَالَ لَهُ الْعُصْفُورُ أَيُّهَا الْجَاهِلُ مَا أَرَاكَ حَفِظْتَنِي إِذَا ظَفِرْتَ بِي وَ لَا انْتَفَعْتَ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي افْتَدَيْتُ بِهَا مِنْكَ نَفْسِي أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكَ أَلَّا تَأْسَ عَلَى مَا فَاتَكَ وَ لَا تُصَدِّقْ مَا لَا يَكُونُ وَ لَا تَطْلُبْ مَا لَا يُدْرَكُ أَمَّا أَنْتَ مُتَفَجِّعٌ عَلَى مَا فَاتَكَ وَ تَلْتَمِسُ مِنِّي رَجْعَتِي إِلَيْكَ وَ تَطْلُبُ مَا لَا تُدْرِكُ وَ تُصَدِّقُ أَنَّ فِي حَوْصَلَتِي دُرَّةً كَبَيْضَةِ الْوَزَّةِ وَ جَمِيعِي أَصْغَرُ مِنْ بَيْضِهَا وَ قَدْ كُنْتُ عَهِدْتُ إِلَيْكَ أَنْ لَا تُصَدِّقَ بِمَا لَا يَكُونُ

وَ أَنَّ أُمَّتَكُمْ صَنَعُوا أَصْنَامَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي خَلَقَتْهُمْ وَ حَفِظُوهَا مِنْ أَنْ تُسْرَقَ مَخَافَةً عَلَيْهَا وَ زَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْفَظُهُمْ وَ أَنْفَقُوا عَلَيْهَا مِنْ مَكَاسِبِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ وَ زَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَرْزُقُهُمْ فَطَلَبُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُدْرَكُ وَ صَدَّقُوا بِمَا لَا يَكُونُ فَلَزِمَهُمْ مِنْهُ مَا لَزِمَ صَاحِبَ الْبُسْتَانِ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ صَدَقْتَ أَمَّا الْأَصْنَامُ فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ عَارِفاً بِأَمْرِهَا زَاهِداً فِيهَا آيِساً مِنْ خَيْرِهَا فَأَخْبِرْنِي بِالَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ وَ الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ لِنَفْسِكَ مَا هُوَ

قَالَ بِلَوْهَرُ جِمَاعُ الدِّينِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ الْآخَرُ الْعَمَلُ بِرِضْوَانِهِ قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ وَ كَيْفَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ.

قَالَ الْحَكِيمُ أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ لَمْ يَزَلْ فَرْداً رَبّاً وَ مَا سِوَاهُ مَرْبُوبٌ وَ أَنَّهُ خَالِقٌ وَ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ وَ أَنَّهُ قَدِيمٌ وَ مَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ وَ أَنَّهُ صَانِعٌ وَ مَا سِوَاهُ مَصْنُوعٌ وَ أَنَّهُ مُدَبِّرٌ وَ مَا سِوَاهُ مُدَبَّرٌ وَ أَنَّهُ بَاقٍ وَ مَا سِوَاهُ فَانٍ وَ أَنَّهُ عَزِيزٌ وَ مَا سِوَاهُ ذَلِيلٌ وَ أَنَّهُ لَا يَنَامُ وَ لَا يَغْفُلُ وَ لَا يَأْكُلُ وَ لَا يَشْرَبُ وَ لَا يَضْعُفُ وَ لَا يُغْلَبُ وَ لَا يَضْجَرُ وَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْ‏ءٌ لَمْ تَمْتَنِعْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ وَ الْهَوَاءُ وَ الْبَرُّ وَ الْبَحْرُ وَ أَنَّهُ كَوَّنَ الْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَ لَا يَزَالُ وَ لَا تُحْدِثُ فِيهِ الْحَوَادِثُ وَ لَا تُغَيِّرُهُ الْأَحْوَالُ وَ لَا تُبَدِّلُهُ الْأَزْمَانُ وَ لَا يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَ لَا يَشْتَغِلُ بِهِ مَكَانٌ وَ لَا يَكُونُ مِنْ مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى مَكَانٍ وَ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْ‏ءٌ عَالِمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ قَدِيرٌ لَا يَفُوتُهُ شَيْ‏ءٌ وَ أَنْ تَعْرِفَهُ بِالرَّأْفَةِ وَ الرَّحْمَةِ وَ الْعَدْلِ وَ أَنَّ لَهُ ثَوَاباً أَعَدَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَ عَذَاباً أَعَدَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ وَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِرِضَاهُ وَ تَجْتَنِبَ سَخَطَهُ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ فَمَا رِضَا الْوَاحِدِ الْخَالِقِ مِنَ الْأَعْمَالِ قَالَ الْحَكِيمُ يَا ابْنَ الْمَلِكِ رِضَاهُ أَنْ تُطِيعَهُ وَ لَا تَعْصِيَهُ وَ أَنْ تَأْتِيَ إِلَى غَيْرِكَ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ وَ تَكُفَّ عَنْ غَيْرِكَ مَا تُحِبُّ أَنْ يُكَفَّ عَنْكَ فِي مِثْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ عَدْلٌ وَ فِي الْعَدْلِ رِضَاهُ وَ فِي اتِّبَاعِ آثَارِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ بِأَنْ لَا تَعْدُوَ سُنَّتَهُمْ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ زِدْنِي أَيُّهَا الْحَكِيمُ تَزْهِيداً فِي الدُّنْيَا وَ أَخْبِرْنِي بِحَالِهَا.

قَالَ الْحَكِيمُ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُ الدُّنْيَا دَارَ تَصَرُّفٍ وَ زَوَالٍ وَ تَقَلُّبٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَ رَأَيْتُ أَهْلَهَا فِيهَا أَغْرَاضاً لِلْمَصَائِبِ وَ رَهَائِنَ لِلْمَتَالِفِ وَ رَأَيْتُ صِحَّةً بَعْدَهَا سُقْماً وَ شَبَاباً بَعْدَهُ هَرَماً وَ غِنًى بَعْدَهُ فَقْراً وَ فَرَحاً بَعْدَهُ حُزْناً وَ عِزّاً بَعْدَهُ ذُلًّا وَ رَخَاءً بَعْدَهُ شِدَّةً وَ أَمْناً بَعْدَهُ خَوْفاً وَ حَيَاةً بَعْدَهَا مَمَاتاً وَ رَأَيْتُ أَعْمَاراً قَصِيرَةً وَ حُتُوفاً رَاصِدَةً وَ سِهَاماً قَاصِدَةً وَ أَبْدَاناً ضَعِيفَةً مُسْتَسْلِمَةً غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ وَ لَا حَصِينَةٍ عَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ بَالِيَةٌ فَانِيَةٌ وَ عَرَفْتُ بِمَا ظَهَرَ لِي مِنْهَا مَا غَابَ عَنِّي مِنْهَا وَ عَرَفْتُ بِظَاهِرِهَا بَاطِنَهَا وَ غَامِضَهَا بِوَاضِحِهَا وَ سِرَّهَا بِعَلَانِيَتِهَا وَ صُدُورَهَا بِوُرُودِهَا فَحَذَرْتُهَا لِمَا عَرَفْتُهَا وَ فَرَرْتُ مِنْهَا لِمَا أَبْصَرْتُهَا

بَيْنَا تَرَى الْمَرْءَ فِيهَا مُغْتَبِطاً مَحْبُوراً وَ مَلِكاً مَسْرُوراً فِي خَفْضٍ وَ دَعَةٍ وَ نِعْمَةٍ وَ سَعَةٍ فِي بَهْجَةٍ مِنْ شَبَابِهِ وَ حَدَاثَةٍ مِنْ سِنِّهِ وَ غِبْطَةٍ مِنْ مُلْكِهِ وَ بَهَاءٍ مِنْ سُلْطَانِهِ وَ صِحَّةٍ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا انْقَلَبَتِ الدُّنْيَا بِهِ أَسَرَّ مَا كَانَ فِيهَا نَفْساً وَ أَقَرَّ مَا كَانَ فِيهَا عَيْناً فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ مُلْكِهَا وَ غِبْطَتِهَا وَ خَفْضِهَا وَ دَعَتِهَا وَ بَهْجَتِهَا فَأَبْدَلَتْهُ بِالْعِزِّ ذُلًّا وَ بِالْفَرَحِ تَرَحاً وَ بِالسُّرُورِ حُزْناً وَ بِالنِّعْمَةِ بُؤْساً وَ بِالْغِنَى فَقْراً وَ بِالسَّعَةِ ضِيقاً وَ بِالشَّبَابِ هَرَماً وَ بِالشَّرَفِ ضَعَةً وَ بِالْحَيَاةِ مَوْتاً فَدَلَّتْهُ فِي حُفْرَةٍ ضَيِّقَةٍ شَدِيدَةِ الْوَحْشَةِ وَحِيداً فَرِيداً غَرِيباً قَدْ فَارَقَ الْأَحِبَّةَ وَ فَارَقُوهُ وَ خَذَلَهُ إِخْوَانُهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ مَنْعاً وَ غَرَّهُ أَعْدَاؤُهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ دَفْعاً وَ صَارَ عِزُّهُ وَ مُلْكُهُ وَ أَهْلُهُ وَ مَالُهُ نُهْبَةً مِنْ بَعْدِهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا وَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا سَاعَةً قَطُّ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا خَطَرٌ وَ لَمْ يَمْلِكْ مِنَ الْأَرْضِ حَظّاً قَطُّ فَلَا تَتَّخِذُهَا يَا ابْنَ الْمَلِكِ دَاراً وَ لَا تَتَّخِذَنَّ فِيهَا عُقْدَةً وَ لَا عَقَاراً فَأُفٍّ لَهَا وَ تُفٍّ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ أُفٍّ لَهَا وَ لِمَنْ يَغْتَرُّ بِهَا إِذَا كَانَ هَذَا حَالَهَا وَ رَقَّ ابْنُ الْمَلِكِ وَ قَالَ زِدْنِي أَيُّهَا الْحَكِيمُ مِنْ حَدِيثِكَ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي صَدْرِي.

قَالَ الْحَكِيمُ إِنَّ الْعُمُرَ قَصِيرٌ وَ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ يُسْرِعَانِ فِيهِ وَ الِارْتِحَالَ مِنَ الدُّنْيَا حَثِيثٌ قَرِيبٌ وَ إِنَّهُ وَ إِنْ طَالَ الْعُمُرُ فِيهَا فَإِنَّ الْمَوْتَ نَازِلٌ وَ الظَّاعِنَ لَا مَحَالَةَ رَاحِلٌ فَيَصِيرُ مَا جَمَعَ فِيهَا مُفَرَّقاً وَ مَا عَمِلَ فِيهَا مُتَبَّراً وَ مَا شَيَّدَ فِيهَا خَرَاباً وَ يَصِيرُ اسْمُهُ مَجْهُولًا وَ ذِكْرُهُ مَنْسِيّاً وَ حَسَبُهُ خَامِلًا وَ جَسَدُهُ بَالِياً وَ شَرَفُهُ وَضِيعاً وَ نِعْمَتُهُ وَبَالًا وَ كَسْبُهُ خَسَاراً وَ يُورَثُ سُلْطَانُهُ وَ يُسْتَذَلُّ عَقِبُهُ وَ يُسْتَبَاحُ حَرِيمُهُ وَ تُنْقَضُ عُهُودُهُ وَ تُخْفَرُ ذِمَّتُهُ وَ تُدْرَسُ آثَارُهُ وَ يُوَزَّعُ مَالُهُ وَ يُطْوَى رَحْلُهُ وَ يَفْرَحُ عَدُوُّهُ وَ يَبِيدُ مُلْكُهُ وَ يُورَثُ تَاجُهُ وَ يُخْلَفُ عَلَى سَرِيرِهِ وَ يُخْرَجُ مِنْ مَسَاكِنِهِ مَسْلُوباً مَخْذُولًا فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى قَبْرِهِ فَيُدْلَى فِي حُفْرَتِهِ فِي وَحْدَةٍ وَ غُرْبَةٍ وَ ظُلْمَةٍ وَ وَحْشَةٍ وَ مَسْكَنَةٍ وَ ذِلَّةٍ قَدْ فَارَقَ الْأَحِبَّةَ وَ أَسْلَمَتْهُ الْعَصَبَةُ فَلَا تُؤْنَسُ وَحْشَتُهُ أَبَداً وَ لَا تُرَدُّ غُرْبَتُهُ أَبَداً

وَ اعْلَمْ أَنَّهَا يَحِقُّ عَلَى الْمَرْءِ اللَّبِيبِ مِنْ سِيَاسَةِ نَفْسِهِ خَاصَّةً كَسِيَاسَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ الْحَازِمِ الَّذِي يُؤَدِّبُ الْعَامَّةَ وَ يَسْتَصْلِحُ الرَّعِيَّةَ وَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ ثُمَّ يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ مِنْهُمْ وَ يُكْرِمُ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ لِلرَّجُلِ اللَّبِيبِ أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ فِي جَمِيعِ أَخْلَاقِهَا وَ أَهْوَائِهَا وَ شَهَوَاتِهَا وَ أَنْ تَحْمِلَهَا وَ إِنْ كَرِهَتْ عَلَى لُزُومِ مَنَافِعِهَا فِيمَا أَحَبَّتْ وَ كَرِهَتْ وَ عَلَى اجْتِنَابِ مَضَارِّهَا وَ أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ ثَوَاباً وَ عِقَاباً مِنْ مَكَانِهَا مِنَ السُّرُورِ إِذَا أَحْسَنَتْ وَ مِنْ مَكَانِهَا مِنَ الْغَمِّ إِذَا أَسَاءَتْ

وَ مِمَّا يَحِقُّ عَلَى ذِي الْعَقْلِ النَّظَرُ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِ وَ الْأَخْذُ بِصَوَابِهَا وَ يَنْهَى نَفْسَهُ عَنْ خَطَائِهَا- وَ أَنْ يَحْتَقِرَ عَمَلَهُ وَ نَفْسَهُ فِي رَأْيِهِ لِكَيْ لَا يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ قَدْ مَدَحَ أَهْلَ الْعَقْلِ وَ ذَمَّ أَهْلَ الْعُجْبِ وَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَ بِالْعَقْلِ يُدْرَكُ كُلُّ خَيْرٍ بِإِذْنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى وَ بِالْجَهْلِ تَهْلِكُ النُّفُوسُ وَ إِنَّ مِنْ أَوْثَقِ الثِّقَاتِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ مَا أَدْرَكَتْهُ عُقُولُهُمْ وَ بَلَغَتْهُ تَجَارِبُهُمْ وَ نَالَتْهُ أَبْصَارُهُمْ فِي التَّرْكِ لِلْأَهْوَاءِ وَ الشَّهَوَاتِ وَ لَيْسَ ذُو الْعَقْلِ بِجَدِيرٍ أَنْ يَرْفُضَ مَا قَوِيَ عَلَى حِفْظِهِ مِنَ الْعَمَلِ احْتِقَاراً لَهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ وَ إِنَّمَا هَذَا مِنْ أَسْلِحَةِ الشَّيْطَانِ الْغَامِضَةِ الَّتِي لَا يُبْصِرُهَا إِلَّا مَنْ تَدَبَّرَهَا وَ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهَا وَ مِنْ رَأْسِ أَسْلِحَتِهِ سِلَاحَانِ أَحَدُهُمَا إِنْكَارُ الْعَقْلِ أَنْ يُوقِعَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ لَا عَقْلَ لَهُ وَ لَا بَصَرَ وَ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي عَقْلِهِ وَ بَصَرِهِ وَ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّهُ عَنْ مَحَبَّةِ الْعِلْمِ وَ طَلَبِهِ وَ يُزَيِّنَ لَهُ الِاشْتِغَالَ بِغَيْرِهِ مِنْ مَلَاهِي الدُّنْيَا فَإِنِ اتَّبَعَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ ظَفَرُهُ وَ إِنْ عَصَاهُ وَ غَلَبَهُ فَزِعَ إِلَى السِّلَاحِ الْآخَرِ وَ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ شَيْئاً وَ أَبْصَرَ عَرَضَ لَهُ بِأَشْيَاءَ لَا يُبْصِرُهَا لِيَغُمَّهُ وَ يضجزه ]يُضْجِرَهُ‏[ بِمَا لَا يَعْلَمُ حَتَّى يُبْغِضَ إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ بِتَضْعِيفِ عَقْلِهِ عِنْدَهُ وَ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الشُّبْهَةِ وَ يَقُولُ أَ لَسْتَ تَرَى أَنَّكَ لَا تَسْتَكْمِلُ هَذَا الْأَمْرَ وَ لَا تُطِيقُهُ أَبَداً فَبِمَ تَعْنِي نَفْسَكَ وَ تُشْقِيهَا فِيمَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ فَبِهَذَا السِّلَاحِ صَرَعَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ

فَاحْتَرِسْ مِنْ أَنْ تَدَعَ اكْتِسَابَ عِلْمِ مَا تَعْلَمُهُ وَ أَنْ تُخْدَعَ عَمَّا اكْتَسَبْتَ مِنْهُ فَإِنَّكَ فِي دَارٍ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِهَا الشَّيْطَانُ بِأَلْوَانِ حِيَلِهِ وَ وُجُوهِ ضَلَالَتِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ ضَرَبَ عَلَى سَمْعِهِ وَ عَقْلِهِ وَ قَلْبِهِ فَتَرَكَهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئاً وَ لَا يَسْأَلُ عَنْ عِلْمِ مَا يَجْهَلُ مِنْهُ كَالْبَهِيمَةِ وَ إِنَّ لِعَامَّتِهِمْ أَدْيَاناً مُخْتَلِفَةً فَمِنْهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الضَّلَالَةِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتَحِلُّ دَمَ بَعْضٍ وَ أَمْوَالَهُمْ وَ يُمَوِّهُ ضَلَالَتَهُمْ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْحَقِّ لِيَلْبِسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ يُزَيِّنَهُ لِضَعِيفِهِمْ وَ يَصُدَّهُمْ عَنِ الدِّينِ الْقَيِّمِ فَالشَّيْطَانُ وَ جُنُودُهُ دَائِبُونَ فِي إِهْلَاكِ النَّاسِ وَ تَضْلِيلِهِمْ لَا يَسْأَمُونَ وَ لَا يَفْتُرُونَ وَ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَ لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُ مَكَايِدِهِمْ إِلَّا بِعَوْنٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ الِاعْتِصَامِ بِدِينِهِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقاً لِطَاعَتِهِ وَ نَصْراً عَلَى عَدُوِّنَا فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ صِفْ لِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى حَتَّى كَأَنِّي أَرَاهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ لَا يُوصَفُ بِالرُّؤْيَةِ وَ لَا يُبْلَغُ بِالْعُقُولِ كُنْهَ صِفَتِهِ وَ لَا تَبْلُغُ الْأَلْسُنُ كُنْهَ مِدْحَتِهِ وَ لَا يُحِيطُ الْعِبَادُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا عَلَّمَهُمْ مِنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ ع- بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَ لَا تُدْرِكُ الْأَوْهَامُ عِظَمَ رُبُوبِيَّتِهِ هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَ أَجَلُّ وَ أَعَزُّ وَ أَعْظَمُ وَ أَمْنَعُ وَ أَلْطَفُ فَبَاحَ لِلْعِبَادِ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا أَحَبَّ وَ أَظْهَرَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ عَلَى مَا أَرَادَ وَ دَلَّهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَ مَعْرِفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ بِإِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ وَ إِعْدَامِ مَا أَحْدَثَ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ وَ مَا الْحُجَّةُ قَالَ إِذَا رَأَيْتَ شَيْئاً مَصْنُوعاً غَابَ عَنْكَ صَانِعُهُ عَلِمْتَ بِعَقْلِكَ أَنَّ لَهُ صَانِعاً فَكَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْأَرْضُ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَأَيُّ حَجَّةٍ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ فَأَخْبِرْنِي أَيُّهَا الْحَكِيمُ أَ بِقَدَرٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ يُصِيبُ النَّاسَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْأَسْقَامِ وَ الْأَوْجَاعِ وَ الْفَقْرِ وَ الْمَكَارِهِ أَوْ بِغَيْرِ قَدَرٍ.

قَالَ بِلَوْهَرُ لَا بَلْ بِقَدَرٍ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ سَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ بَرِي‏ءٌ وَ لَكِنَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ أَوْجَبَ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ لِمَنْ عَصَاهُ.

قَالَ فَأَخْبِرْنِي مَنْ أَعْدَلُ النَّاسِ وَ مَنْ أَجْوَرُهُمْ وَ مَنْ أَكْيَسُهُمْ وَ مَنْ أَحْمَقُهُمْ وَ مَنْ أَشْقَاهُمْ وَ مَنْ أَسْعَدُهُمْ قَالَ أَعْدَلُهُمْ أَنْصَفُهُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَ أَجْوَرُهُمْ مَنْ كَانَ جَوْرُهُ عِنْدَهُ عَدْلًا وَ عَدْلُ أَهْلِ الْعَدْلِ عِنْدَهُ جَوْراً وَ أَمَّا أَكْيَسُهُمْ فَمَنْ أَخَذَ لِآخِرَتِهِ أُهْبَتَهَا وَ أَحْمَقُهُمْ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ وَ الْخَطَايَا عَمَلَهُ وَ أَسْعَدُهُمْ مَنْ خُتِمَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ بِخَيْرٍ وَ أَشْقَاهُمْ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ.

ثُمَّ قَالَ مَنْ دَانَ النَّاسَ بِمَا إِنْ دُيِّنَ بِمِثْلِهِ هَلَكَ فَذَلِكَ الْمُسْخِطُ لِلَّهِ الْمُخَالِفُ لِمَا يُحِبُّ وَ مَنْ دَانَهُمْ بِمَا إِنْ دُيِّنَ بِمِثْلِهِ صَلَحَ فَذَلِكَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ الْمُوَافِقُ لِمَا يُحِبُ الْمُجْتَنِبُ لِسَخَطِهِ ثُمَّ قَالَ لَا تَسْتَقْبِحَنَّ الْحَسَنَ وَ إِنْ كَانَ فِي الْفُجَّارِ وَ لَا تَسْتَحْسِنَنَّ الْقَبِيحَ وَ إِنْ كَانَ فِي الْأَبْرَارِ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ أَخْبِرْنِي أَيُّ النَّاسِ أَوْلَى بِالسَّعَادَةِ وَ أَيُّهُمْ أَوْلَى بِالشَّقَاوَةِ.

قَالَ بِلَوْهَرُ أَوْلَاهُمْ بِالسَّعَادَةِ الْمُطِيعُ لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فِي أَوَامِرِهِ وَ الْمُجْتَنِبُ لِنَوَاهِيهِ وَ أَوْلَاهُمْ بِالشَّقَاوَةِ الْعَامِلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ التَّارِكُ لِطَاعَتِهِ الْمُؤْثِرُ لِشَهْوَتِهِ عَلَى رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ قَالَ فَأَيُّ النَّاسِ أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ قَالَ أَتْبَعُهُمْ لِأَمْرِهِ وَ أَقْوَاهُمْ فِي دِينِهِ وَ أَبْعَدُهُمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالسَّيِّئَاتِ

قَالَ فَمَا الْحَسَنَاتُ وَ السَّيِّئَاتُ قَالَ الْحَسَنَاتُ صِدْقُ النِّيَّةِ وَ الْعَمَلِ وَ الْقَوْلُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَ السَّيِّئَاتُ سُوءُ النِّيَّةِ وَ سُوءُ الْعَمَلِ وَ الْقَوْلُ السَّيِّئُ قَالَ فَمَا صِدْقُ النِّيَّةِ قَالَ الِاقْتِصَادُ فِي الْهِمَّةِ قَالَ فَمَا سُوءُ الْقَوْلِ قَالَ الْكَذِبُ قَالَ فَمَا سُوءُ الْعَمَلِ قَالَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ قَالَ أَخْبِرْنِي كَيْفَ الِاقْتِصَادُ فِي الْهِمَّةِ قَالَ التَّذَكُّرُ لِزَوَالِ الدُّنْيَا وَ انْقِطَاعِ أَمْرِهَا وَ الْكَفُّ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا النَّقِمَةُ وَ التَّبِعَةُ فِي الْآخِرَةِ.

قَالَ فَمَا السَّخَاءُ قَالَ إِعْطَاءُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ قَالَ فَمَا الْكَرَمُ قَالَ التَّقْوَى قَالَ فَمَا الْبُخْلُ قَالَ مَنْعُ الْحُقُوقِ عَنْ أَهْلِهَا وَ أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا قَالَ فَمَا الْحِرْصُ قَالَ الْإِخْلَادُ إِلَى الدُّنْيَا وَ الطِّمَاحُ إِلَى الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا الْفَسَادُ وَ ثَمَرَتُهَا عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ قَالَ فَمَا الصِّدْقُ قَالَ الطَّرِيقَةُ فِي الدِّينِ بِأَنْ لَا يُخَادِعَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَ لَا يَكْذِبَهَا قَالَ فَمَا الْحُمْقُ قَالَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى الدُّنْيَا وَ تَرْكُ مَا يَدُومُ وَ يَبْقَى قَالَ فَمَا الْكَذِبُ قَالَ أَنْ يَكْذِبَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فَلَا يَزَالُ بِهَوَاهُ شَغِفاً وَ لِدِينِهِ مُسَوِّفاً قَالَ أَيُّ الرِّجَالِ أَكْمَلُهُمْ فِي الصَّلَاحِ قَالَ أَكْمَلُهُمْ فِي الْعَقْلِ وَ أَبْصَرُهُمْ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَ أَعْلَمُهُمْ بِخُصُومِهِ وَ أَشَدُّهُمْ مِنْهُمُ احْتِرَاساً قَالَ أَخْبِرْنِي مَا تِلْكَ الْعَاقِبَةُ وَ مَا أُولَئِكَ الْخُصَمَاءُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ الْعَاقِلُ فَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ قَالَ الْعَاقِبَةُ الْآخِرَةُ وَ الْفَنَاءُ الدُّنْيَا قَالَ فَمَا الْخُصَمَاءُ قَالَ الْحِرْصُ وَ الْغَضَبُ وَ الْحَسَدُ وَ الْحَمِيَّةُ وَ الشَّهْوَةُ وَ الرِّيَاءُ وَ اللَّجَاجَةُ.

قَالَ أَيُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَدَدْتَ أَقْوَى وَ أَجْدَرُ أَنْ يُسْلَمَ مِنْهُ قَالَ الْحِرْصُ أَقَلُّ رِضًا وَ أَفْحَشُ غَضَباً وَ الْغَضَبُ أَجْوَرُ سُلْطَاناً وَ أَقَلُّ شُكْراً وَ أَكْسَبُ لِلْبَغْضَاءِ وَ الْحَسَدُ أَسْوَأُ الْخَيْبَةِ لِلنِّيَّةِ وَ أَخْلَفُ لِلظَّنِّ وَ الْحَمِيَّةُ أَشَدُّ لَجَاجَةً وَ أَفْظَعُ مَعْصِيَةً وَ الْحِقْدُ أَطْوَلُ تَوَقُّداً وَ أَقَلُّ رَحْمَةً وَ أَشَدُّ سَطْوَةً وَ الرِّيَاءُ أَشَدُّ خَدِيعَةً وَ أَخْفَى اكْتِتَاماً وَ أَكْذَبُ وَ اللَّجَاجَةُ أَعْيَا خُصُومَةً وَ أَقْطَعُ مَعْذِرَةً.

قَالَ أَيُّ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ لِلنَّاسِ فِي هَلَاكِهِمْ أَبْلَغُ قَالَ تَعْمِيَتُهُ عَلَيْهِمُ الْبِرَّ وَ الْإِثْمَ وَ الثَّوَابَ وَ الْعِقَابَ وَ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ فِي ارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ قَالَ أَخْبِرْنِي بِالْقُوَّةِ الَّتِي قَوَّى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهَا الْعِبَادَ فِي تَغَالُبِ تِلْكَ الْأُمُورِ السَّيِّئَةِ وَ الْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ قَالَ الْعِلْمُ وَ الْعَقْلُ وَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَ صَبْرُ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا وَ الرَّجَاءُ لِلثَّوَابِ فِي الدِّينِ وَ كَثْرَةُ الذِّكْرِ لِفَنَاءِ الدُّنْيَا وَ قُرْبِ الْأَجَلِ وَ الِاحْتِفَاظُ مِنْ أَنْ يَنْقُضَ مَا يَبْقَى بِمَا يَفْنَى فَاعْتِبَارُ مَاضِي الْأُمُورِ بِعَاقِبَتِهَا وَ الِاحْتِفَاظُ بِمَا لَا يَعْرِفُ إِلَّا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ وَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْعَادَةِ السَّيِّئَةِ وَ حَمْلُهَا عَلَى الْعَادَةِ الْحَسَنَةِ وَ الْخُلُقِ الْمَحْمُودِ وَ أَنْ يَكُونَ أَمَلُ الْمَرْءِ بِقَدْرِ عَيْشِهِ حَتَّى يَبْلُغَ غَايَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقُنُوعُ وَ عَمَلُ الصَّبْرِ وَ الرِّضَا بِالْكَفَافِ وَ اللُّزُومُ لِلْقَضَاءِ وَ الْمَعْرِفَةُ بِمَا فِيهِ فِي الشِّدَّةِ مِنَ التَّعَبِ وَ مَا فِي الْإِفْرَاطِ مِنَ الِاقْتِرَافِ وَ حُسْنِ الْعَزَاءِ عَمَّا فَاتَ وَ طِيبُ النَّفْسِ عَنْهُ وَ تَرْكُ مُعَالَجَةِ مَا لَا يَتِمُّ وَ الصَّبْرُ بِالْأُمُورِ الَّتِي إِلَيْهَا يُرَدُّ وَ اخْتِيَارُ سَبِيلِ الرُّشْدِ عَلَى سَبِيلِ الْغَيِّ وَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَمِلَ خَيْراً أُجْزِيَ بِهِ وَ إِنْ عَمِلَ شَرّاً أُجْزِيَ بِهِ وَ الْمَعْرِفَةُ بِالْحُقُوقِ وَ الْحُدُودِ فِي التَّقْوَى وَ عَمَلُ النَّصِيحَةِ وَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَ رُكُوبُ الشَّهَوَاتِ وَ حَمْلُ الْأُمُورِ عَلَى الرَّأْيِ وَ الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ وَ الْقُوَّةِ فَإِنْ أَتَاهُ الْبَلَاءُ أَتَاهُ وَ هُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مَلُومٍ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ أَيُّ الْأَخْلَاقِ أَكْرَمُ وَ أَعَزُّ قَالَ التَّوَاضُعُ وَ لِينُ الْكَلِمَةِ لِلْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ قَالَ أَيُّ الْعِبَادَةِ أَحْسَنُ قَالَ الْوَقَارُ وَ الْمَوَدَّةُ قَالَ فَأَخْبِرْنِي أَيُّ الشِّيَمِ أَفْضَلُ قَالَ حُبُّ الصَّالِحِينَ قَالَ أَيُّ الذِّكْرِ أَفْضَلُ قَالَ مَا كَانَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ فَأَيُّ الْخُصُومِ أَلَدُّ قَالَ ارْتِكَابُ الذُّنُوبِ قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ أَخْبِرْنِي أَيُّ الْفَضْلِ أَفْضَلُ قَالَ الرِّضَا بِالْكَفَافِ قَالَ أَخْبِرْنِي أَيُّ الْأَدَبِ أَحْسَنُ قَالَ أَدَبُ الدِّينِ قَالَ أَيُّ الشَّيْ‏ءِ أَجْفَى قَالَ السُّلْطَانُ الْعَاتِي وَ الْقَلْبُ الْقَاسِي قَالَ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَبْعَدُ غَايَةً قَالَ عَيْنُ الْحَرِيصِ الَّتِي لَا تَشْبَعُ مِنَ الدُّنْيَا قَالَ أَيُّ الْأُمُورِ أَخْبَثُ عَاقِبَةً قَالَ الْتِمَاسُ رِضَا النَّاسِ فِي سَخَطِ الرَّبِّ عَزَّ وَ جَلَّ قَالَ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَسْرَعُ تَقَلُّباً قَالَ قُلُوبُ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا قَالَ فَأَخْبِرْنِي أَيُّ الْفُجُورِ أَفْحَشُ قَالَ إِعْطَاءُ عَهْدِ اللَّهِ وَ الْغَدْرُ فِيهِ قَالَ فَأَيُّ شَيْ‏ءٍ أَسْرَعُ انْقِطَاعاً قَالَ مَوَدَّةُ الْفَاسِقِ قَالَ فَأَيُّ شَيْ‏ءٍ أَخْوَنُ قَالَ لِسَانُ الْكَاذِبِ قَالَ فَأَيُّ شَيْ‏ءٍ أَشَدُّ اكْتِتَاماً قَالَ شَرُّ الْمُرَائِي الْمُخَادِعِ قَالَ فَأَيُّ شَيْ‏ءٍ أَشْبَهُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا قَالَ أَحْلَامُ النَّائِمِ قَالَ أَيُّ الرِّجَالِ أَفْضَلُ رِضًا قَالَ أَحْسَنُهُمْ ظَنّاً بِاللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ أَتْقَاهُمْ وَ أَقَلُّهُمْ غَفْلَةً عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَ انْقِطَاعِ الْمُدَّةِ قَالَ أَيُّ شَيْ‏ءٍ مِنَ الدُّنْيَا أَقَرُّ لِلْعَيْنِ قَالَ الْوَلَدُ الْأَدِيبُ وَ الزَّوْجَةُ الْمُوَافِقَةُ الْمُؤَاتِيَةُ الْمُعِينَةُ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ قَالَ أَيُّ الدَّاءِ أَلْزَمُ فِي الدُّنْيَا قَالَ الْوَلَدُ السَّوْءُ وَ الزَّوْجَةُ السَّوْءُ اللَّذَيْنِ لَا يَجِدُ مِنْهُمَا بُدّاً قَالَ أَيُّ الْخَفْضِ أَخْفَضُ قَالَ رِضَا الْمَرْءِ بِحَظِّهِ وَ اسْتِينَاسُهُ بِالصَّالِحِينَ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ لِلْحَكِيمِ فَرِّغْ لِي ذِهْنَكَ فَقَدْ أَرَدْتُ مُسَاءَلَتَكَ عَنْ أَهَمِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ بَعْدَ إِذْ بَصَّرَنِيَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ أَمْرِي مَا كُنْتُ بِهِ جَاهِلًا وَ رَزَقَنِي مِنَ الدِّينِ مَا كُنْتُ مِنْهُ آيِساً.

قَالَ الْحَكِيمُ سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ أَ رَأَيْتَ مَنْ أُوتِيَ الْمُلْكَ طِفْلًا وَ دِينُهُ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَ قَدْ غُذِّيَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَ اعْتَادَهَا وَ نَشَأَ فِيهَا إِلَى أَنْ كَانَ رَجُلًا وَ كَهْلًا لَا يَنْتَقِلُ مِنْ حَالَتِهِ تِلْكَ فِي جَهَالَتِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَ إِعْطَائِهِ نَفْسَهُ شَهَوَاتِهَا مُتَجَرِّداً لِبُلُوغِ الْغَايَةِ فِيمَا زُيِّنَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ مُشْتَغِلًا بِهَا مُؤْثِراً لَهَا جَرِيّاً عَلَيْهَا لَا يَرَى الرُّشْدَ إِلَّا فِيهَا وَ لَا تَزِيدُهُ الْأَيَّامُ إِلَّا حُبّاً لَهَا وَ اغْتِرَاراً بِهَا وَ عَجَباً وَ حُبّاً لِأَهْلِ مِلَّتِهِ وَ رَأْيِهِ.

وَ قَدْ دَعَتْهُ بَصِيرَتُهُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ جَهِلَ أَمْرَ آخِرَتِهِ وَ أَغْفَلَهَا فَاسْتَخَفَ بِهَا وَ سَهَا عَنْهَا قَسَاوَةَ قَلْبٍ وَ خُبْثَ نِيَّةٍ وَ سُوءَ رَأْيٍ وَ اشْتَدَّتْ عَدَاوَتُهُ لِمَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَ الِاسْتِخْفَاءِ بِالْحَقِّ وَ الْمُغَيِّبِينَ لِأَشْخَاصِهِمْ انْتِظَاراً لِلْفَرَجِ مِنْ ظُلْمِهِ وَ عَدَاوَتِهِ هَلْ يَطْمَعُ لَهُ إِنْ طَالَ عُمُرُهُ فِي النُّزُوعِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَ الْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَى مَا الْفَضْلُ فِيهِ بَيِّنٌ وَ الْحُجَّةُ فِيهِ وَاضِحَةٌ وَ الْحَظُّ جَزِيلٌ مِنْ لُزُومِ مَا أُبْصِرَ مِنَ الدِّينِ فَيَأْتِي مَا يُرْجَى لَهُ بِهِ مَغْفِرَةً لِمَا قَدْ سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَ حُسْنِ الثَّوَابِ فِي مَآبِهِ.

قَالَ الْحَكِيمُ قَدْ عَرَفْتُ هَذِهِ الصِّفَةَ وَ مَا دَعَاكَ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ مَا ذَاكَ مِنْكَ بِمُسْتَنْكَرٍ لِفَضْلِ مَا أُوتِيتَ مِنَ الْفَهْمِ وَ خُصِّصْتَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ.

قَالَ الْحَكِيمُ أَمَّا صَاحِبُ هَذِهِ الصِّفَةِ فَالْمَلِكُ وَ الَّذِي دَعَاكَ إِلَيْهِ الْعِنَايَةُ بِمَا سَأَلْتَ عَنْهُ وَ الِاهْتِمَامُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ وَ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ وَ طَبْعِهِ وَ هَوَاهُ مَعَ مَا نَوَيْتَ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي أَدَاءِ حَقِّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ لَهُ وَ أَحْسَبُكَ تُرِيدُ بُلُوغَ غَايَةِ الْعُذْرِ فِي التَّلَطُّفِ لِإِنْقَاذِهِ وَ إِخْرَاجِهِ عَنْ عَظِيمِ الْهَوْلِ وَ دَائِمِ الْبَلَاءِ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَى السَّلَامَةِ وَ رَاحَةِ الْأَبَدِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ لَمْ تَجْرِمْ حَرْفاً عَمَّا أَرَدْتُ فَأَعْلِمْنِي رَأْيَكَ فِيمَا عَنَيْتُ مِنْ أَمْرِ الْمَلِكِ وَ حَالِهِ الَّتِي أَتَخَوَّفُ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ عَلَيْهَا فَتُصِيبَهُ الْحَسْرَةُ وَ النَّدَامَةُ حِينَ لَا أُغْنِي عَنْهُ شَيْئاً فَاجْعَلْنِي مِنْهُ عَلَى يَقِينٍ وَ فَرِّجْ عَمَّا أَنَا بِهِ مَغْمُومٌ شَدِيدُ الِاهْتِمَامِ بِهِ فَإِنِّي قَلِيلُ الْحِيلَةِ فِيهِ.

قَالَ الْحَكِيمُ أَمَّا رَأْيُنَا فَإِنَّا لَا نُبَعِّدُ مَخْلُوقاً مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ خَالِقِهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ لَا نَأْيَسُ لَهُ مِنْهَا مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ وَ إِنْ كَانَ عَاتِياً طَاغِياً ضَالًّا لِمَا قَدْ وَصَفَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ مِنَ التَّحَنُّنِ وَ الرَّأْفَةِ وَ الرَّحْمَةِ وَ دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَ التَّوْبَةِ وَ فِي هَذَا فَضْلُ الطَّمَعِ لَكَ فِي حَاجَتِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

وَ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ مَلِكٌ عَظِيمُ الصَّوْتِ فِي الْعِلْمِ رَفِيقٌ سَائِسٌ يُحِبُّ الْعَدْلَ فِي أُمَّتِهِ وَ الْإِصْلَاحَ لِرَعِيَّتِهِ عَاشَ بِذَلِكَ زَمَاناً بِخَيْرِ حَالٍ ثُمَّ هَلَكَ فَجَزِعَتْ عَلَيْهِ أُمَّتُهُ وَ كَانَ بِامْرَأَةٍ لَهُ حَمْلٌ فَذَكَرَ الْمُنَجِّمُونَ وَ الْكَهَنَةُ أَنَّهُ غُلَامٌ وَ كَانَ يُدَبِّرُ مُلْكَهُمْ مَنْ كَانَ يَلِي ذَلِكَ فِي زَمَانِ مُلْكِهِمْ فَاتَّفَقَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُنَجِّمُونَ وَ الْكَهَنَةُ وَ وُلِدَ مِنْ ذَلِكَ الْحَمْلِ غُلَامٌ فَأَقَامُوا عِنْدَ مِيلَادِهِ سَنَةً بِالْمَعَازِفِ وَ الْمَلَاهِي وَ الْأَشْرِبَةِ وَ الْأَطْعِمَةِ ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْفِقْهِ وَ الرَّبَّانِيِّينَ قَالُوا لِعَامَّتِهِمْ إِنَّ هَذَا الْمَوْلُودَ إِنَّمَا هُوَ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَ قَدْ جَعَلْتُمُ الشُّكْرَ لِغَيْرِهِ وَ إِنْ كَانَ هِبَةً مِنْ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَدْ أَدَّيْتُمُ الْحَقَّ إِلَى مَنْ أَعْطَاكُمُوهُ وَ اجْتَهَدْتُمْ فِي الشُّكْرِ لِمَنْ رَزَقَكُمُوهُ

فَقَالَ لَهُمُ الْعَامَّةُ مَا وَهَبَهُ لَنَا إِلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى وَ لَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْنَا غَيْرُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ هُوَ الَّذِي وَهَبَهُ لَكُمْ فَقَدْ أَرْضَيْتُمْ غَيْرَ الَّذِي أَعْطَاكُمْ وَ أَسْخَطْتُمُ اللَّهَ الَّذِي وَهَبَهُ لَكُمْ فَقَالَتْ لَهُمُ الرَّعِيَّةُ فَأَشِيرُوا لَنَا أَيُّهَا الْحُكَمَاءُ وَ أَخْبِرُونَا أَيُّهَا الْعُلَمَاءُ فَنَتَّبِعَ قَوْلَكُمْ وَ نَتَقَبَّلَ نَصِيحَتَكُمْ وَ مُرُونَا بِأَمْرِكُمْ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ فَإِنَّا نَرَى لَكُمْ أَنْ تَعْدِلُوا عَنِ اتِّبَاعِ مَرْضَاةِ الشَّيْطَانِ بِالْمَعَازِفِ وَ الْمَلَاهِي وَ الْمُسْكِرِ إِلَى ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ شُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ أَضْعَافَ شُكْرِكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَتَّى يُغْفَرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْكُمْ قَالَتِ الرَّعِيَّةُ لَا تَحْمِلُ أَجْسَادُنَا كُلَّ الَّذِي قُلْتُمْ وَ أَمَرْتُمْ بِهِ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ يَا أُولِي الْجَهْلِ كَيْفَ أَطَعْتُمْ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْكُمْ وَ تَعْصُونَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ وَ كَيْفَ قَوِيتُمْ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي وَ تَضْعُفُونَ عَمَّا يَنْبَغِي

قَالُوا لَهُمْ يَا أَئِمَّةَ الْحُكَمَاءِ عَظُمَتْ فِينَا الشَّهَوَاتُ وَ كَثُرَتْ فِينَا اللَّذَّاتُ فَقَوِينَا بِمَا عَظُمَ فِينَا مِنْهَا عَلَى الْعَظِيمِ مِنْ شَكْلِهَا وَ ضَعُفَتْ مِنَّا النِّيَّاتُ فَعَجَزْنَا عَنْ حَمْلِ الْمُثْقِلَاتِ فَارْضَوْا مِنَّا فِي الرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ يَوْماً فَيَوْماً وَ لَا تُكَلِّفُونَا كُلَّ هَذَا الثِّقْلِ قَالُوا لَهُمْ يَا مَعْشَرَ السُّفَهَاءِ أَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْجَهْلِ وَ إِخْوَانَ الضَّلَالِ حِينَ خَفَّتْ عَلَيْكُمُ الشِّقْوَةُ وَ ثَقُلَتْ عَلَيْكُمُ السَّعَادَةُ قَالُوا لَهُمْ أَيُّهَا السَّادَةُ الْحُكَمَاءُ وَ الْقَادَةُ الْعُلَمَاءُ إِنَّا نَسْتَجِيرُ مِنْ تَعْنِيفِكُمْ إِيَّانَا بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ- وَ نَسْتَتِرُ مِنْ تَعْيِيرِكُمْ لَنَا بِعَفْوِهِ فَلَا تُؤَنِّبُونَ ا وَ لَا تُعَيِّرُونَا بِضَعْفِنَا وَ لَا تَعِيبُوا الْجَهَالَةَ عَلَيْنَا فَإِنَّا إِنْ أَطَعْنَا اللَّهَ مَعَ عَفْوِهِ وَ حِلْمِهِ وَ تَضْعِيفِهِ الْحَسَنَاتِ وَ اجْتَهَدْنَا فِي عِبَادَتِهِ مِثْلَ الَّذِي بَذَلْنَا لِهَوَانَا مِنَ الْبَاطِلِ بَلَغْنَا حَاجَتَنَا وَ بَلَّغَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِنَا غَايَتَنَا وَ رَحِمَنَا كَمَا خَلَقَنَا

فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَقَرَّ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَ رَضُوا قَوْلَهُمْ فَصَلُّوا وَ صَامُوا وَ تَعَبَّدُوا وَ أَعْظَمُوا الصَّدَقَاتِ سَنَةً كَامِلَةً فَلَمَّا انْقَضَى ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَتِ الْكَهَنَةُ إِنَّ الَّذِي صَنَعَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى هَذَا الْمَوْلُودِ يُخْبِرُ أَنَّ هَذَا الْمَلِكَ يَكُونُ فَاجِراً وَ يَكُونُ بَارّاً وَ يَكُونُ مُتَجَبِّراً وَ يَكُونُ مُتَوَاضِعاً وَ يَكُونُ مُسِيئاً وَ يَكُونُ مُحْسِناً وَ قَالَ الْمُنَجِّمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ

فَقِيلَ لَهُمْ كَيْفَ قُلْتُمْ ذَلِكَ قَالَ الْكَهَنَةُ قُلْنَا هَذَا مِنْ قِبَلِ اللَّهْوِ وَ الْمَعَازِفِ وَ الْبَاطِلِ الَّذِي صُنِعَ عَلَيْهِ وَ مَا صُنِعَ عَلَيْهِ مِنْ ضِدِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَ قَالَ الْمُنَجِّمُونَ قُلْنَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اسْتِقَامَةِ الزُّهْرَةِ وَ الْمُشْتَرِي

فَنَشَأَ الْغُلَامُ بِكِبْرٍ لَا تُوصَفُ عَظَمَتُهُ وَ مَرَحٍ لَا يُنْعَتُ وَ عُدْوَانٍ لَا يُطَاقُ فَعَسَفَ وَ جَارَ وَ ظَلَمَ فِي الْحُكْمِ وَ غَشَمَ وَ كَانَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ مَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَ أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُ فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ ذَلِكَ وَ اغْتَرَّ بِالشَّبَابِ وَ الصِّحَّةِ وَ الْقُدْرَةِ وَ الظَّفَرِ وَ النَّظَرِ فَامْتَلَأَ سُرُوراً وَ إِعْجَاباً بِمَا هُوَ فِيهِ وَ رَأَى كُلَّمَا يُحِبُّ وَ سَمِعَ كُلَّمَا اشْتَهَى حَتَّى بَلَغَ اثْنَتَيْنِ وَ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ جَمَعَ نِسَاءً مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ وَ صِبْيَاناً وَ الْجَوَارِيَ وَ الْمُخَدَّرَاتِ وَ خَيْلَهُ الْمُطَهَّمَاتِ الْعَنَا قَ وَ أَلْوَانَ مَرَاكِبِهِ الْفَاخِرَةِ وَ وَصَائِفَهُ وَ خُدَّامَهُ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي خِدْمَتِهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْبَسُوا أَجَدَّ ثِيَابِهِمْ وَ يَتَزَيَّنُوا بِأَحْسَنِ زِينَتِهِمْ وَ أَمَرَ بِبِنَاءِ مَجْلِسٍ مُقَابِلَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ صَفَائِحُ أَرْضِهِ الذَّهَبُ مُفَضَّضاً بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ طُولُهُ مِائَةٌ وَ عِشْرُونَ ذِرَاعاً وَ عَرْضُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً مُزَخْرَفاً سَقْفُهُ وَ حِيطَانُهُ قَدْ زُيِّنَ بِكَرَائِمِ الْحُلِيِّ وَ صُنُوفِ الْجَوْهَرِ وَ اللُّؤْلُؤِ النَّظِيمِ وَ فَاخِرِهِ وَ أَمَرَ بِضُرُوبِ الْأَمْوَالِ فَأُخْرِجَتْ مِنَ الْخَزَائِنِ وَ نُضِّدَتْ سِمَاطَيْنِ أَمَامَ مَجْلِسِهِ وَ أَمَرَ جُنُودَهُ وَ أَصْحَابَهُ وَ قُوَّادَهُ وَ كُتَّابَهُ وَ حُجَّابَهُ وَ عُظَمَاءَ أَهْلِ بِلَادِهِ وَ عُلَمَاءَهُمْ فَحَضَرُوا فِي أَحْسَنِ هَيْئَتِهِمْ وَ أَجْمَلِ جَمَالِهِمْ وَ تَسَلَّحَ فُرْسَانُهُ وَ رَكِبَتْ خُيُولُهُ فِي عِدَّتِهِمْ ثُمَّ وَقَفُوا عَلَى مَرَاكِزِهِمْ وَ مَرَاتِبِهِمْ صُفُوفاً وَ كَرَادِيسَ وَ إِنَّمَا أَرَادَ بِزَعْمِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْظَرٍ رَفِيعٍ حَسَنٍ تُسَرُّ بِهِ نَفْسُهُ وَ تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ

ثُمَّ خَرَجَ فَصَعِدَ إِلَى مَجْلِسِهِ فَأَشْرَفَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ فَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً فَقَالَ لِبَعْضِ غِلْمَانِهِ قَدْ نَظَرْتُ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِي إِلَى مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَ بَقِيَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى صُورَةِ وَجْهِي فَدَعَا بِمِرْآةٍ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ فَبَيْنَا هُوَ يَقْلِبُ طَرْفَهُ فِيهَا إِذْ لَاحَتْ لَهُ شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ لِحْيَتِهِ كَغُرَابٍ أَبْيَضَ بَيْنَ غُرْبَانٍ سُودٍ وَ اشْتَدَّ مِنْهَا ذُعْرُهُ وَ فَزَعُهُ وَ تَغَيَّرَ فِي عَيْنِهِ حَالُهُ وَ ظَهَرَتِ الْكَآبَةُ وَ الْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ وَ تَوَلَّى السُّرُورُ عَنْهُ.