ثم فزع إلى قرينه الثالث الذى كان يحقره و يعصيه و لا يلتفت إليه أيام رخائه فقال
له إنى منك لمستح و لكن الحاجة اضطرتنى إليك فما ذا لى عندك قال لك عندى المواساة و
المحافظة عليك و قلة الغفلة عنك فأبشر و قر عينا فإنىصاحبك الذى لا يخذلك و لا
يسلمك فلا يهمنك قلة ما أسلفتنى و اصطنعت إلى فإنى قد كنت أحفظ لك ذلك و أوفره عليك
كله ثم لم أرض لك بعد ذلك حتى اتجرت لك به فربحت أرباحا كثيرة فلك اليوم عندى من
ذلك أضعاف ما وضعت عندى منه فأبشر و إنى أرجو أن يكون فى ذلك رضا الملك عنك اليوم و
فرجا مما أنت فيه فقال الرجل عند ذلك ما أدرى على أى الأمرين أنا أشد حسرة عليه على
ما فرطت فى القرين الصالح أم على ما اجتهدت فيه من المحبة لقرين السوء. قال بلوهر
فالقرين الأول هو المال و القرين الثانى هو الأهل و الولد و القرين الثالث هو العمل
الصالح.
قال ابن الملك إن هذا هو الحق المبين فزدنى مثلا للدنيا و غرورها و صاحبها المغرور
بها المطمئن إليها. قال بلوهر كان أهل مدينة يأتون الرجل الغريب الجاهل بأمرهم
فيملكونه عليهم سنة فلا يشك أن ملكه دائم عليهم لجهالته بهم فإذا انقضت السنة
أخرجوه من مدينتهم عريانا مجردا سليبا فيقع فى بلاء و شقاء لم يحدث به نفسه فصار ما
مضى عليه من ملكه وبالا و خزيا و مصيبة و أذى ثم إن أهل تلك المدينة أخذوا رجلا آخر
فملكوه عليهم فلما رأى الرجل غربته فيهم لم يستأنس بهم و طلب رجلا من أهل أرضه
خبيرا بأمرهم حتى وجده فأفضى إليه بسر القوم و أشار إليه أن ينظر إلى الأموال التى
فى يديه فيخرج منها ما استطاع الأول فالأول حتى يحرزه فى المكان الذى يخرجونه إليه
فإذا أخرجه القوم صار إلى الكفاية و السعة بما قدم و أحرز ففعل ما قال له الرجل و
لم يضيع وصيته.
قال بلوهر و إنى لأرجو أن تكون أنت ذلك الرجل يا ابن الملك الذى لم يستأنس بالغرباء
و لم يغتر بالسلطان و أنا الرجل الذى طلبت و لك عندى الدلالة و المعرفة و المعونة.
قال ابن الملك صدقت أيها الحكيم أنا ذلك الرجل و أنت طلبتى التى كنت طلبتها فصف لى
أمر الآخرة تاما فأما الدنيا فلعمرى لقد صدقت و لقد رأيت منها ما يدلنى على فنائها
و يزهدنى فيها و لم يزل أمرها حقيرا عندى.
قال بلوهر إن الزهادة فى الدنيا يا ابن الملك مفتاح الرغبة فى الآخرة و من طلب
الآخرة فأصاب بابها دخل ملكوتها و كيف لا تزهد فى الدنيا يا ابن الملك و قد آتاك
الله من العقل ما آتاك و قد ترى أن الدنيا كلها و إن كثرت إنما يجمعها أهلها لهذه
الأجساد الفانية و الجسد لا قوام له و لا امتناع به فالحر يذيبه و البرد يجمده و
السموم تتخلله و الماء يغرقه و الشمس تحرقه و الهواء يسقمه و السباع تفترسه و الطير
تنقره و الحديد يقطعه و الصدام يحطمه ثم هو معجون بطينة من ألوان الأسقام و الأوجاع
و الأمراض فهو مرتهن بها مترقب لها وجل منها غير طامع فى السلامة منها ثم هو مقارن
الآفات السبع التى لا يتخلص منها ذو جسد و هى الجوع و الظمأ و الحر و البرد و الوجع
و الخوف و الموت. فأما ما سألت عنه من أمر الآخرة فإنى أرجو أن تجد ما تحسبه بعيدا
قريبا و ما كنت تحسبه عسيرا يسيرا و ما كنت تحسبه قليلا كثيرا.
قال ابن الملك أيها الحكيم أ رأيت القوم الذين كان والدى حرقهم بالنار و نفاهم أ هم
أصحابك قال بلوهر نعم قال فإنه بلغنى أن الناس اجتمعوا على عداوتهم و سوء الثناء
عليهم قال بلوهر نعم قد كان ذلك قال فما سبب ذلك أيها الحكيم قال بلوهر أما قولك يا
ابن الملك فى سوء الثناء عليهم فما عسى أن يقولوا فيمن يصدق و لا يكذب و يعلم و لا
يجهل و يكف و لا يؤذىو يصلى و لا ينام و يصوم و لا يفطر و يبتلى فيصبر و يتفكر
فيعتبر و يطيب نفسه عن الأموال و الأهلين و لا يخافهم الناس على أموالهم و أهليهم.
قال ابن الملك فكيف اتفق الناس على عداوتهم و هم فيما بينهم مختلفون قال بلوهر
مثلهم فى ذلك مثل كلاب اجتمعوا على جيفة تنهشها و يهار بعضها بعضا مختلفة الألوان و
الأجناس فبينا هىتقبل على الجيفة إذ دنا رجل منهم فترك بعضهن بعضا و أقبلن على
الرجل فيهرن عليه جميعا متعاويات عليه و ليس للرجل فى جيفتهن حاجة و لا أراد أن
ينازعهن فيها و لكنهن عرفن غربته منهن فاستوحشن منه و استأنس بعضهن ببعض و إن كن
مختلفات متعاديات فيما بينهن من قبل أن يرد الرجل عليهن قال بلوهر فمثل الجيفة متاع
الدنيا و مثل صنوف الكلاب ضروب الرجال الذين يقتتلون على الدنيا و يهرقون دماءهم و
ينفقون لها أموالهم و مثل الرجل الذى اجتمعت عليه الكلاب و لا حاجة له فى جيفهن
كمثل صاحب الدين الذى رفض الدنيا و خرج منها فليس ينازع فيها أهلها و لا يمنع ذلك
الناس من أن يعادونه لغربته عندهم فإن عجبت فأعجب من الناس أنهم لا همة لهم إلا
الدنيا و جمعها و التكاثر و التفاخر و التغالب عليها حتى إذا رأوا من قد تركها فى
أيديهم و تخلى عنها كانوا له أشد حنقا منهم للذى يشاحهم عليها فأىحجة يا ابن الملك
أدحض من تعاون المختلفين على من لا حجة لهم عليه قال ابن الملك أعمد لحاجتى قال
بلوهر إن الطبيب الرفيق إذ رأى الجسد قد أهلكته الأخلاط الفاسدة فأراد أن يقويه و
يسمنه لم يغذه بالطعام الذى يكون منه اللحم و الدم و القوة لأنه يعلم أنه متى أدخل
الطعام على الأخلاط الفاسدة أضر بالجسد و لم ينفعه و لم يقوه و لكن يبدأ بالأدوية و
الحمية من الطعام فإذا أذهب من جسده الأخلاط الفاسدة أقبل عليه بما يصلحه من الطعام
فحينئذ يجد طعم الطعام و يسمن و يقوى و يحمل الثقل بمشيئة الله عز و جل.
و قال ابن الملك أيها الحكيم أخبرنى ما ذا تصيب من الطعام و الشراب قال الحكيم
زعموا أن ملكا من الملوك كان عظيم الملك كثير الجند و الأموال و أنه بدا له أن يغزو
ملكا آخر ليزداد ملكا إلى ملكه و مالا إلى ماله فسار إليه بالجنود و العدد و العدة
و النساء و الأولاد و الأثقال فأقبلوا نحوه فظهروا عليه و استباحوا عسكره فهرب و
ساق امرأته و أولاده صغارا فألجأه الطلب عند المساء إلى أجمة على شاطئ النهر فدخلها
مع أهله و ولده و سيب دوابه مخافة أن تدل عليه بصهيلها فباتوا فى الأجمة و هم
يسمعون وقع حوافر الخيل من كل جانب فأصبح الرجل لا يطيق براحا و أما النهر فلا
يستطيع عبوره و أما الفضاء فلا يستطيع الخروج إليه لمكان العدو فهم فى مكان ضيق قد
آذاهم البرد و أهجرهم الخوف و طواهم الجوع و ليس لهم طعام و لا معهم زاد و لا إدام
و أولاده صغار جياع يبكون من الضر الذى قد أصابهم فمكث بذلك يومين ثم إن أحد بنيه
مات فألقوه فى النهر فمكث بعد ذلك يوما آخر فقال الرجل لامرأته إنا مشرفون على
الهلاك جميعا و إن بقى بعضنا و هلك بعضنا كان خيرا من أن نهلك جميعا و قد رأيت أن
أعجل ذبح صبى من هؤلاء الصبيان فنجعله قوتا لنا و لأولادنا إلى أن يأتىالله عز و
جل بالفرج فإن أخرنا ذلك هزل الصبيان حتى لا يشبع لحومهم و نضعف حتى لا نستطيع
الحركة إن وجدنا إلى ذلك سبيلا و طاوعته امرأته فذبح بعض أولاده و وضعوه بينهم
ينهشونه فما ظنك يا ابن الملك بذلك المضطر أكل الكلب المستكثر يأكل أم أكل المضطر
المستقل قال ابن الملك بل أكل المستقل قال الحكيم كذلك أكلى و شربى يا ابن الملك فى
الدنيا.
فقال له ابن الملك أ رأيت هذا الذى تدعونىإليه أيها الحكيم أ هو شى ء نظر الناس
فيه بعقولهم و ألبابهم حتى اختاروه على ما سواه لأنفسهم أم دعاهم الله إليه فأجابوا
قال الحكيم علا هذا الأمر و لطف عن أن يكون من أهل الأرض أو برأيهم دبروه و لو كان
من أهل الأرض لدعوا إلى عملها و زينتها و حفظها و دعتها و نعيمها و لذتها و لهوها و
لعبها و شهواتها و لكنه أمر غريب و دعوة من الله عز و جل ساطعة و هدى مستقيم ناقض
على أهل الدنيا أعمالهم مخالف لهم عائب عليهم و طاعن ناقل لهم عن أهوائهم داع لهم
إلى طاعة ربهم و إن ذلك لبين لمن تنبه مكتوم عنده عن غير أهله حتى يظهر الله الحق
بعد خفائه و يجعل كلمته العليا و كلمة الذين جهلوا السفلى.
قال ابن الملك صدقت أيها الحكيم ثم قال الحكيم إن من الناس من تفكر قبل مجىء الرسل
(ع) فأصاب و منهم من دعته الرسل بعد مجيئها فأجاب و أنت يا ابن الملك ممن تفكر
بعقله فأصاب.
قال ابن الملك فهل تعلم أحدا من الناس يدعو إلى التزهيد فى الدنيا غيركم قال الحكيم
أما فى بلادكم هذه فلا و أما فى سائر الأمم ففيهم قوم ينتحلون الدين بألسنتهم و لم
يستحقوه بأعمالهم فاختلف سبيلنا و سبيلهم قال ابن الملك كيف صرتم أولى بالحق منهم و
إنما أتاكم هذا الأمر الغريب من حيث أتاهم قال الحكيم الحق كله جاء من عند الله عز
و جل و إنه تبارك و تعالى دعا العباد إليه فقبله قوم بحقه و شروطه حتى أدوه إلى
أهله كما أمروا لم يظلموا و لم يخطئوا و لم يضيعوا و قبله آخرون فلم يقوموا بحقه و
شروطه و لم يؤدوه إلى أهله و لم يكن لهم فيه عزيمة و لا على العمل به نية ضمير
فضيعوه و استثقلوه فالمضيع لا يكون مثل الحافظ و المفسد لا يكون كالمصلح و الصابر
لا يكون كالجازع فمن هاهنا كنا نحن أحق به منهم و أولى.
ثم قال الحكيم إنه ليس يجرى على لسان أحد منهم من الدين و التزهيد و الدعاء إلى
الآخرة إلا و قد أخذ ذلك عن أصل الحق الذى عنه أخذنا و لكنه فرق بيننا و بينهم
أحداثهم التى أحدثوا و ابتغاؤهم الدنيا و إخلادهم إليها و ذلك أن هذه الدعوة لم تزل
تأتى و تظهر فىالأرض مع أنبياء الله و رسله (ص) فى القرون الماضية على ألسنة
مختلفة متفرقة و كان أهل دعوة الحق أمرهم مستقيم و طريقهم واضح و دعوتهم بينة لا
فرقة بينهم و لا اختلاف فكانت الرسل (ع) إذا بلغوا رسالات ربهم و احتجوا لله تبارك
و تعالى على عباده بحجته و إقامة معالم الدين و أحكامه قبضهم الله عز و جل إليه عند
انقضاء آجالهم و منتهى مدتهم و مكثت الأمة من الأمم بعد نبيها برهة من دهرها لا
تغير و لا تبدل ثم صار الناس بعد ذلك يحدثون الأحداث و يتبعون الشهوات و يضيعون
العلم فكان العالم البالغ المستبصر منهم يخفىشخصه و لا يظهر علمه فيعرفونه باسمه و
لا يهتدون إلى مكانه و لا يبقى منهم إلا الخسيس من أهل العلم يستخف به أهل الجهل و
الباطل فيخمل العلم و يظهر الجهل و يتناسل القرون فلا يعرفون إلا الجهل و الباطل و
يزداد الجهال استعلاء و كثرة و العلماء خمولا و قلة فحولوا معالم الله تبارك و
تعالى عن وجوهها و تركوا قصد سبيلها و هم مع ذلك مقرون بتنزيله متبعون شبهه ابتغاء
تأويله متعلقون بصفته تاركون لحقيقته نابذون لأحكامه فكل صفة جاءت الرسل تدعوا
إليها فنحن لهم موافقون فى تلك الصفة مخالفون لهم فى أحكامهم و سيرتهم و لسنا
نخالفهم فى شىء إلا و لنا عليهم الحجة الواضحة و البينة العادلة من نعت ما فى
أيديهم من الكتب المنزلة من الله عز و جل فكل متكلم منهم يتكلم بشىء من الحكمة فهى
لنا و هى بيننا و بينهم تشهد لنا عليهم بأنها توافق صفتنا و سيرتنا و حكمنا و تشهد
عليهم بأنها مخالفة لسنتهم و أعمالهم فليسوا يعرفون من الكتاب إلا وصفه و لا من
الدين إلا اسمه فليسوا بأهل الكتاب حقيقة حتى يقيموه.
قال ابن الملك فما بال الأنبياء و الرسل (ع) يأتون فى زمان دون زمان قال الحكيم
إنما مثل ذلك كمثل ملك كانت له أرض موات لا عمران فيها فلما أراد أن يقبل عليها
بعمارته أرسل إليها رجلا جلدا أمينا ناصحا ثم أمره أن يعمر تلك الأرض و أن يغرس
فيها صنوف الشجر و أنواع الزرع ثم سمى له الملك ألوانا من الغرس معلومة و أنواعا من
الزرع معروفة ثم أمره أن لا يعدو ما سمى له و أن لا يحدث فيها من قبله شيئا لم يكن
أمره به سيده و أمره أن يخرج لها نهرا و يسد عليها حائطا و يمنعها من أن يفسدها
مفسد فجاء الرسول الذى أرسله الملك إلى تلك الأرض فأحياها بعد موتها و عمرها بعد
خرابها و غرس فيها و زرع من الصنوف التى أمره بها ثم ساق الماء إليها حتى نبت الغرس
و اتصل الزرع ثم لم يلبث قليلا حتى مات قيمها و أقام بعده من يقوم مقامه و خلف من
بعده خلف خالفوا من أقامه القيم بعده و غلبوه على أمره فأخربوا العمران و طموا
الأنهار فَيَبِسَ الْغَرْسُ وَ هَلَكَ الزَّرْعُ فَلَمَّا بَلَغَ الْمَلِكَ
خِلَافُهُمْ عَلَى الْقَيِّمِ بَعْدَ رَسُولِهِ وَ خَرَابُ أَرْضِهِ أَرْسَلَ
إِلَيْهَا رَسُولًا آخَرَ يُحْيِيهَا وَ يُعِيدُهَا وَ يُصْلِحُهَا كَمَا كَانَتْ
فِي مَنْزِلَتِهَا الْأُولَى وَ كَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَ الرُّسُلُ ع يَبْعَثُ
اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْهُمْ الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ فَيُصْلِحُ أَمْرَ
النَّاسِ بَعْدَ فَسَادِهِ.
قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ أَ يَخُصُّ الْأَنْبِيَاءَ وَ الرُّسُلَ ع إِذَا جَاءَتْ
بِمَا يَبْعَثُ بِهِ أَمْ تُعَمُّ قَالَ بِلَوْهَرُ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَ
الرُّسُلَ إِذَا جَاءَتْ تَدْعُوا عَامَّةَ النَّاسِ فَمَنْ أَطَاعَهُمْ كَانَ
مِنْهُمْ وَ مَنْ عَصَاهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَ مَا تَخْلُو الْأَرْضُ قَطُّ
مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فِيهَا مُطَاعٌ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَ
رُسُلِهِ وَ مِنْ أَوْصِيَائِهِ
وَ إِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ طَائِرٍ كَانَ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ يُقَالُ
لَهُ قدمٌ يَبِيضُ بَيْضاً كَثِيراً وَ كَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِلْفِرَاخِ وَ
كَثْرَتِهَا وَ كَانَ يَأْتِي عَلَيْهِ زَمَانٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِيهِ مَا
يُرِيدُهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ بُدّاً مِنِ اتِّخَاذِ أَرْضٍ أُخْرَى حَتَّى
يَذْهَبَ ذَلِكَ الزَّمَانُ فَيَأْخُذُ بَيْضَهُ مَخَافَةً عَلَيْهِ مِنْ أَنْ
يَهْلِكَ مِنْ شَفَقَتِهِ فَيُفَرِّقُهُ فِي أَعْشَاشِ الطَّيْرِ فَتَحْضُنُ
الطَّيْرُ بَيْضَهُ مَعَ بَيْضِهَا وَ تُخْرِجُ فِرَاخَهُ مَعَ فِرَاخِهَا فَإِذَا
طَالَ مَكْثُ فِرَاخِ قدمٍ مَعَ فِرَاخِ الطَّيْرِ أَلِفَهَا بَعْضُ فِرَاخِ
الطَّيْرِ وَ اسْتَأْنَسَ بِهَا فَإِذَا كَانَ الزَّمَانُ الَّذِي يَنْصَرِفُ فِيهِ
قدمٌ إِلَى مَكَانِهِ مَرَّ بِأَعْشَاشِ الطَّيْرِ وَ أَوْكَارِهَا بِاللَّيْلِ
فَأَسْمَعَ فِرَاخَهُ وَ غَيْرَهَا صَوْتَهُ فَإِذَا سَمِعَتْ فِرَاخُهُ صَوْتَهُ
تَبِعَتْهُ وَ تَبِعَ فِرَاخَهُ مَا كَانَ أَلِفَهَا مِنْ فِرَاخِ سَائِرِ
الطَّيْرِ وَ لَمْ يُجِبْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ فِرَاخِهِ وَ لَا مَا لَمْ يَكُنْ
أَلِفَ فِرَاخَهُ وَ كَانَ قَدْ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَنْ أَجَابَهُ مِنْ فِرَاخِهِ
حُبّاً لِلْفِرَاخِ وَ كَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَسْتَعْرِضُونَ النَّاسَ
جَمِيعاً بِدُعَائِهِمْ فَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ الْحِكْمَةِ وَ الْعَقْلِ
لِمَعْرِفَتِهِمْ بِفَضْلِ الْحِكْمَةِ فَمَثَلُ الطَّيْرِ الَّذِي دَعَا
بِصَوْتِهِ مَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَ الرُّسُلِ الَّتِي تَعُمُّ النَّاسَ
بِدُعَائِهِمْ وَ مَثَلُ الْبَيْضِ الْمُتَفَرِّقِ فِي أَعْشَاشِ الطَّيْرِ مَثَلُ
الْحِكْمَةِ وَ مَثَلُ سَائِرِ فِرَاخِ الطَّيْرِ الَّتِي أَلِفَتْ مَعَ فِرَاخِ
قدمٍ مَثَلُ مَنْ أَجَابَ الْحُكَمَاءَ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ لِأَنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَ جَلَّ جَعَلَ لِأَنْبِيَائِهِ وَ رُسُلِهِ مِنَ الْفَضْلِ وَ الرَّأْيِ
مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ وَ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْحُجَجِ وَ
النُّورِ وَ الضِّيَاءِ مَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُمْ وَ ذَلِكَ لِمَا يُرِيدُ مِنْ
بُلُوغِ رِسَالَتِهِ وَ مَوَاقِعِ حُجَجِهِ وَ كَانَتِ الرُّسُلُ إِذَا جَاءَتْ وَ
أَظْهَرَتْ دَعْوَتَهَا أَجَابَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَيْضاً مَنْ لَمْ يَكُنْ
أَجَابَ الْحُكَمَاءَ وَ ذَلِكَ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى
دَعْوَتِهِمْ مِنَ الضِّيَاءِ وَ الْبُرْهَانِ.
قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ أَ فَرَأَيْتَ مَا يَأْتِي بِهِ الرُّسُلُ وَ الْأَنْبِيَاءُ
إِذْ زَعَمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ النَّاسِ وَ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَ
جَلَّ هُوَ كَلَامٌ وَ كَلَامُ مَلَائِكَتِهِ كَلَامٌ قَالَ الْحَكِيمُ أَ مَا
رَأَيْتَ النَّاسَ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُفْهِمُوا بَعْضَ الدَّوَابِّ وَ
الطَّيْرِ مَا يُرِيدُونَ مِنْ تَقَدُّمِهَا وَ تَأَخُّرِهَا وَ إِقْبَالِهَا وَ
إِدْبَارِهَا لَمْ يَجِدُوا الدَّوَابَّ وَ الطَّيْرَ تَحْمِلُ كَلَامَهُمُ الَّذِي
هُوَ كَلَامُهُمْ فَوَضَعُوا مِنَ النَّقْرِ وَ الصَّفِيرِ وَ الزَّجْرِ مَا
يَبْلُغُوا بِهِ حَاجَتَهُمْ وَ مَا عَرَفُوا أَنَّهَا تُطِيقُ حَمْلَهُ وَ
كَذَلِكَ الْعِبَادُ يعجزوا ]يَعْجَزُونَ[ أَنْ يَعْلَمُوا كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ
وَ جَلَّ وَ كَلَامَ مَلَائِكَتِهِ عَلَى كُنْهِهِ وَ كَمَالِهِ وَ لُطْفِهِ وَ
صِفَتِهِ فَصَارَ مَا تَرَاجَعَ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي
سَمِعُوا بِهَا الْحِكْمَةَ شَبِيهاً بِمَا وَضَعَ النَّاسُ لِلدَّوَابِّ وَ
الطَّيْرِ وَ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الصَّوْتُ مَكَانَ الْحِكْمَةِ المُخْبِرَةِ فِي
تِلْكَ الْأَصْوَاتِ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ وَاضِحَةً بَيْنَهُمْ قَوِيَّةً
مُنِيرَةً شَرِيفَةً عَظِيمَةً وَ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ وُقُوعِ مَعَانِيهَا عَلَى
مَوَاقِعِهَا وَ بُلُوغِ مَا احْتَجَّ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى
الْعِبَادِ فِيهَا وَ كَانَ الصَّوْتُ لِلْحِكْمَةِ جَسَداً وَ مَسْكَناً وَ
كَانَتِ الْحِكْمَةُ لِلصَّوْتِ نَفْساً وَ رُوحاً وَ لَا طَاقَةَ لِلنَّاسِ أَنْ
يُنْفِذُوا غَوْرَ كَلَامِ الْحِكْمَةِ وَ لَا يُحِيطُوا بِهِ بِعُقُولِهِمْ فَمِنْ
قِبَلِ ذَلِكَ تَفَاضَلَتِ الْعُلَمَاءُ فِي عِلْمِهِمْ فَلَا يَزَالُ عَالِمٌ
يَأْخُذُ عِلْمَهُ مِنْ عَالِمٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْعِلْمُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ
جَلَّ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ وَ كَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ قَدْ يُصِيبُونَ مِنَ
الْحِكْمَةِ وَ الْعِلْمِ مَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْجَهْلِ وَ لَكِنْ لِكُلِّ ذِي
فَضْلٍ فَضْلُهُ كَمَا أَنَّ النَّاسَ يَنَالُونَ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ مَا
يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَ أَبْدَانِهِمْ وَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ
يُنْفِذُوهَا بِأَبْصَارِهِمْ فَهِيَ كَالْعَيْنِ الْغَزِيرَةِ الظَّاهِرِ
مَجْرَاهَا الْمَكْنُونِ عُنْصُرُهَا فَالنَّاسُ قَدْ يُجِيبُونَ بِمَا ظَهَرَ
لَهُمْ مِنْ مَائِهَا وَ لَا يُدْرِكُونَ غَوْرَهَا وَ هِيَ كَالنُّجُومِ
الزَّاهِرَةِ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ وَ لَا يَعْلَمُونَ مَسَاقِطَهَا
فَالْحِكْمَةُ أَشْرَفُ وَ أَرْفَعُ وَ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفْنَاهَا بِهِ كُلِّهِ
هِيَ مِفْتَاحُ بَابِ كُلِّ خَيْرٍ يُرْتَجَى وَ النَّجَاةُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ
يُتَّقَى وَ هِيَ شَرَابُ الْحَيَاةِ الَّتِي مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَمُتْ
أَبَداً وَ الشِّفَاءُ لِلسَّقَمِ الَّذِي مَنِ اسْتَشْفَى بِهِ لَمْ يَسْقُمْ
أَبَداً وَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ سَلَكَهُ لَمْ يَضِلَّ أَبَداً
هِيَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ الَّذِي لَا يُخْلِقُهُ طُولُ التَّكْرَارِ مَنْ
تَمَسَّكَ بِهِ انْجَلَى عَنْهُ الْعَمَى وَ مَنِ اعْتَصَمَ بِهِ فَازَ وَ اهْتَدَى
وَ أَخَذَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ فَمَا بَالُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الَّتِي وَصَفْتَ بِمَا
وَصَفْتَ مِنَ الْفَضْلِ وَ الشَّرَفِ وَ الِارْتِفَاعِ وَ الْقُوَّةِ وَ
الْمَنْفَعَةِ وَ الْكَمَالِ وَ الْبُرْهَانِ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ
كُلُّهُمْ جَمِيعاً.
قَالَ الْحَكِيمُ إِنَّمَا مَثَلُ الْحِكْمَةِ كَمَثَلِ الشَّمْسِ الطَّالِعَةِ
عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْأَبْيَضِ وَ الْأَسْوَدِ مِنْهُمْ وَ الصَّغِيرِ وَ
الْكَبِيرِ فَمَنْ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَمْ تَمْنَعْهُ وَ لَمْ يَحُلْ
بَيْنَهُ وَ بَيْنَهَا مِنْ أَقْرَبِهِمْ وَ أَبْعَدِهِمْ وَ مَنْ لَمْ يُرِدِ
الِانْتِفَاعَ بِهَا فَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَيْهَا وَ لَا تَمْنَعُ الشَّمْسُ عَلَى
النَّاسِ جَمِيعاً وَ لَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا
وَ كَذَلِكَ الْحِكْمَةُ وَ حَالُهَا بَيْنَ النَّاسِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ
الْحِكْمَةُ قَدْ عَمَّتِ النَّاسَ جَمِيعاً إِلَّا أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ
فِي ذَلِكَ وَ الشَّمْسُ ظَاهِرَةٌ إِذْ طَلَعَتْ عَلَى الْأَبْصَارِ النَّاظِرَةِ
فَرَّقَتْ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ فَمِنْهُمُ الصَّحِيحُ
الْبَصَرِ الَّذِي يَنْفَعُهُ الضَّوْءُ وَ يَقْوَى عَلَى النَّظَرِ وَ مِنْهُمُ
الْأَعْمَى الْقَرِيبُ مِنَ الضَّوْءِ الَّذِي لَوْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسٌ أَوْ
شُمُوسٌ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ شَيْئاً وَ مِنْهُمُ الْمَرِيضُ الْبَصَرِ الَّذِي لَا
يُعَدُّ فِي الْعُمْيَانِ وَ لَا فِي أَصْحَابِ الْبَصَرِ كَذَلِكَ الْحِكْمَةُ
هِيَ شَمْسُ الْقُلُوبِ إِذَا طَلَعَتْ تَفَرَّقَ عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ مَنْزِلٍ
لِأَهْلِ الْبَصَرِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الْحِكْمَةَ فَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِهَا
وَ يَعْمَلُونَ بِهَا وَ مَنْزِلٍ لِأَهْلِ الْعَمَى الَّذِينَ تَنْبُو الْحِكْمَةُ
عَنْ قُلُوبِهِمْ لِإِنْكَارِهِمُ الْحِكْمَةَ وَ تَرْكِهِمْ قَبُولَهَا كَمَا
يَنْبُو ضَوْءُ الشَّمْسِ عَنِ الْعُمْيَانِ وَ مَنْزِلٍ لِأَهْلِ مَرَضِ
الْقُلُوبِ الَّذِينَ يَقْصُرُ عِلْمُهُمْ وَ يَضْعُفُ عَمَلُهُمْ وَ يَسْتَوِي
فِيهِمُ السَّيِّئُ وَ الْحَسَنُ وَ الْحَقُّ وَ الْبَاطِلُ وَ إِنَّ أَكْثَرَ مَنْ
تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَ هِيَ الْحِكْمَةُ مِمَّنْ يَعْمَى عَنْهَا.
قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ فَهَلْ يَسَعُ الرَّجُلَ الْحِكْمَةُ فَلَا يُجِيبُ
إِلَيْهَا حَتَّى يَلْبَثَ زَمَاناً نَاكِباً عَنْهَا ثُمَّ يُجِيبُ وَ
يُرَاجِعُهَا قَالَ بِلَوْهَرُ نَعَمْ هَذَا أَكْثَرُ حَالاتِ النَّاسِ فِي
الْحِكْمَةِ
قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ تَرَى وَالِدِي سَمِعَ شَيْئاً مِنْ هَذَا الْكَلَامِ قَطُّ
قَالَ بِلَوْهَرُ لَا أَرَاهُ سَمِعَ سَمَاعاً صَحِيحاً رَسَخَ فِي قَلْبِهِ وَ لَا
كَلَّمَهُ فِيهِ نَاصِحٌ شَفِيقٌ.
قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ وَ كَيْفَ تَرَكَ ذَلِكَ الْحُكَمَاءُ مِنْهُ طُولَ
دَهْرِهِمْ قَالَ بِلَوْهَرُ تَرَكُوهُ لِعِلْمِهِمْ بِمَوَاضِعِ كَلَامِهِمْ
فَرُبَّمَا تَرَكُوا ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَ أَحْسَنُ إِنْصَافاً وَ أَلْيَنُ
عَرِيكَةً وَ أَحْسَنُ اسْتِمَاعاً مِنْ أَبِيكَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ ليعاش
]لَيُعَايِشُ[ الرَّجُلَ طُولَ عُمُرِهِ وَ بَيْنَهُمَا الِاسْتِينَاسُ وَ
الْمَوَدَّةُ وَ الْمُفَاوَضَةُ وَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ إِلَّا
الدِّينُ وَ الْحِكْمَةُ وَ هُوَ مُتَفَجِّعٌ عَلَيْهِ مُتَوَجِّعٌ لَهُ ثُمَّ لَا
يُفْضِي إِلَيْهِ أَسْرَارَ الْحِكْمَةِ إِذْ لَمْ يَرَهُ لَهَا مَوْضِعاً.
وَ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ مَلِكاً مِنَ الْمُلُوكِ كَانَ عَاقِلًا قَرِيباً مِنَ
النَّاسِ مُصْلِحاً لِأُمُورِهِمْ حَسَنَ النَّظَرِ وَ الْإِنْصَافِ لَهُمْ وَ
كَانَ لَهُ وَزِيرُ صِدْقٍ صَالِحٌ يُعِينُهُ عَلَى الْإِصْلَاحِ وَ يَكْفِيهِ
مَئُونَتَهُ وَ يُشَاوِرُهُ فِي أُمُورِهِ وَ كَانَ الْوَزِيرُ أَدِيباً عَاقِلًا
لَهُ دِينٌ وَ وَرَعٌ وَ نَزَاهَةٌ عَلَى الدُّنْيَا وَ كَانَ قَدْ لَقِيَ أَهْلَ
الدِّينِ وَ سَمِعَ كَلَامَهُمْ وَ عَرَفَ فَضْلَهُمْ فَأَجَابَهُمْ وَ انْقَطَعَ
إِلَيْهِمْ بِإِخَائِهِ وَ وُدِّهِ وَ كَانَتْ لَهُ مِنَ الْمَلِكِ مَنْزِلَةٌ
حَسَنَةٌ وَ خَاصَّةٌ وَ كَانَ الْمَلِكُ لَا يَكْتُمُهُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِهِ وَ
كَانَ الْوَزِيرُ أَيْضاً لَهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
لِيُطْلِعَهُ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ وَ لَا يُفَاوِضُهُ أَسْرَارَ الْحِكْمَةِ
فَعَاشَا بِذَلِكَ زَمَاناً طَوِيلًا وَ كَانَ الْوَزِيرُ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَى
الْمَلِكِ سَجَدَ لِلْأَصْنَامِ وَ عَظَّمَهَا وَ أَخَذَ شَيْئاً فِي طَرِيقِ
الْجَهَالَةِ وَ الضَّلَالَةِ تَقِيَّةً لَهُ فَأَشْفَقَ الْوَزِيرُ عَلَى
الْمَلِكِ مِنْ ذَلِكَ وَ اهْتَمَّ بِهِ وَ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابَهُ وَ
إِخْوَانَهُ فَقَالُوا لَهُ انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَ أَصْحَابِكَ فَإِنْ رَأَيْتَهُ
مَوْضِعاً لِلْكَلَامِ فَكَلِّمْهُ وَ فَاوِضْهُ وَ إِلَّا فَإِنَّكَ إِنَّمَا
تُعِينُهُ عَلَى نَفْسِكَ وَ تُهَيِّجُهُ عَلَى أَهْلِ دِينِكَ فَإِنَّ
السُّلْطَانَ لَا يَغْتَرُّ بِهِ وَ لَا تُؤْمَنُ سَطْوَتُهُ فَلَمْ يَزَلِ
الْوَزِيرُ عَلَى اهْتِمَامِهِ بِهِ مُصَافِياً لَهُ رَفِيقاً بِهِ رَجَاءَ أَنْ
يَجِدَ فُرْصَةً فَيَنْصَحَهُ أَوْ يَجِدَ لِلْكَلَامِ مَوْضِعاً فَيُفَاوِضَهُ وَ
كَانَ الْمَلِكُ مَعَ ضَلَالَتِهِ مُتَوَاضِعاً سَهْلًا قَرِيباً حَسَنَ السِّيرَةِ
فِي رَعِيَّتِهِ حَرِيصاً عَلَى إِصْلَاحِهِمْ مُتَفَقِّداً لِأُمُورِهِمْ
فَاصْطَحَبَ الْوَزِيرُ مَعَ الْمَلِكِ عَلَى هَذَا بُرْهَةً مِنْ زَمَانِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ قَالَ لِلْوَزِيرِ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي بَعْدَ
مَا هَدَأَتِ الْعُيُونُ هَلْ لَكَ أَنْ تَرْكَبَ فَنَسِيرَ فِي الْمَدِينَةِ
فَنَنْظُرَ إِلَى حَالِ النَّاسِ وَ آثَارِ الْأَمْطَارِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ فِي
هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَالَ الْوَزِيرُ نَعَمْ فَرَكِبَا جَمِيعاً يَجُولَانِ فِي
نَوَاحِي الْمَدِينَةِ فَمَرَّا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ عَلَى مَزْبَلَةٍ تُشْبِهُ
الْجَبَلَ فَنَظَرَ الْمَلِكُ إِلَى ضَوْءِ النَّارِ تَبْدُو فِي نَاحِيَةِ
الْمَزْبَلَةِ فَقَالَ لِلْوَزِيرِ إِنَّ لِهَذِهِ لَقِصَّةً فَانْزِلْ بِنَا
نَمْشِي حَتَّى نَدْنُوَ مِنْهَا فَنَعْلَمَ خَبَرَهَا فَفَعَلَا ذَلِكَ فَلَمَّا
انْتَهَيَا إِلَى مَخْرَجِ الضَّوْءِ وَجَدَا نَقْباً شَبِيهاً بِالْغَارِ وَ فِيهِ
مِسْكِينٌ مِنَ الْمَسَاكِينِ ثُمَّ نَظَرَا فِي الْغَارِ مِنْ حَيْثُ لَا
يَرَاهُمَا الرَّجُلُ فَإِذَا الرَّجُلُ مُشَوَّهُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ
خُلْقَانٌ مِنْ خُلْقَانِ الْمَزْبَلَةِ مُتَّكِئٌ عَلَى مُتَّكَإٍ قَدْ هَيَّأَهُ
مِنَ الزِّبْلِ وَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِبْرِيقٌ فَخَّارٌ فِيهِ شَرَابٌ وَ فِي يَدِهِ
طُنْبُورٌ يَضْرِبُ بِيَدِهِ وَ امْرَأَتُهُ فِي مِثْلِ خَلْقِهِ وَ لِبَاسِهِ
قَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ تَسْقِيهِ إِذَا اسْتَسْقَى مِنْهَا وَ تَرْقُصُ لَهُ
إِذَا ضَرَبَ وَ تُحَيِّيهِ بِتَحِيَّةِ الْمُلُوكِ كُلَّمَا شَرِبَ وَ هُوَ
يُسَمِّيهَا سَيِّدَةَ النِّسَاءِ وَ هُمَا يَصِفَانِ أَنْفُسَهُمَا بِالْحُسْنِ وَ
الْجَمَالِ وَ بَيْنَهُمَا مِنَ السُّرُورِ وَ الضَّحِكِ وَ الطَّرَبِ مَا لَا
يُوصَفُ فَقَامَ الْمَلِكُ عَلَى رِجْلَيْهِ مَلِيّاً وَ الْوَزِيرُ يَنْظُرُ
كَذَلِكَ وَ يَتَعَجَّبَانِ مِنْ لَذَّتِهِمَا وَ إِعْجَابِهِمَا بِمَا هُمَا فِيهِ
ثُمَّ انْصَرَفَ الْمَلِكُ وَ الْوَزِيرُ
فَقَالَ الْمَلِكُ مَا أَعْلَمَنِي وَ إِيَّاكَ أَصَابَنَا الدَّهْرُ مِنَ
اللَّذَّةِ وَ السُّرُورِ وَ الْفَرَحِ مِثْلَ مَا أَصَابَ هَذَيْنِ اللَّيْلَةَ
مَعَ أَنِّي أَظُنُّهُمَا يَصْنَعَانِ كُلَّ لَيْلَةٍ مِثْلَ هَذَا فَاغْتَنَمَ
الْوَزِيرُ ذَلِكَ مِنْهُ وَ وَجَدَ فُرْصَةً فَقَالَ لَهُ أَخَافُ أَيُّهَا
الْمَلِكُ أَنْ يَكُونَ دُنْيَانَا هَذِهِ مِنَ الْغُرُورِ وَ يَكُونَ مُلْكُكَ وَ
مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْبَهْجَةِ وَ السُّرُورِ فِي أَعْيُنِ مَنْ يَعْرِفُ
الْمَلَكُوتَ الدَّائِمَ مِثْلَ هَذِهِ الْمَزْبَلَةِ وَ مِثْلَ هَذَيْنِ
الشَّخْصَيْنِ اللَّذَيْنِ رَأَيْنَاهُمَا وَ تَكُونَ مَسَاكِنُنَا وَ مَا
شَيَّدْنَا مِنْهَا عِنْدَ مَنْ يَرْجُو مَسَاكِنَ السَّعَادَةِ وَ ثَوَابَ
الْآخِرَةِ مِثْلَ هَذَا الْغَارِ فِي أَعْيُنِنَا وَ تَكُونَ أَجْسَادُنَا عِنْدَ
مَنْ يَعْرِفُ الطَّهَارَةَ وَ النَّضَارَةَ وَ الْحُسْنَ وَ الصِّحَّةَ مِثْلَ
جَسَدِ هَذَا الْمُشَوَّهِ الْخَلْقِ فِي أَعْيُنِنَا وَ يَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ
عَنْ إِعْجَابِنَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ كَتَعَجُّبِنَا مِنْ إِعْجَابِ هَذَيْنِ
الشَّخْصَيْنِ بِمَا هُمَا فِيهِ.
قَالَ الْمَلِكُ وَ هَلْ تَعْرِفُ لِهَذِهِ الصِّفَةِ أَهْلًا قَالَ الْوَزِيرُ
نَعَمْ قَالَ الْمَلِكُ مَنْ هُمْ قَالَ الْوَزِيرُ أَهْلُ الدِّينِ الَّذِينَ
عَرَفُوا مُلْكَ الْآخِرَةِ وَ نَعِيمَهَا فَطَلَبُوهُ قَالَ الْمَلِكُ وَ مَا
مُلْكُ الْآخِرَةِ قَالَ الْوَزِيرُ هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي لَا بُؤْسَ بَعْدَهُ
وَ الْغِنَى الَّذِي لَا فَقْرَ بَعْدَهُ وَ الْفَرَحُ الَّذِي لَا تَرَحَ بَعْدَهُ
وَ الصِّحَّةُ الَّتِي لَا سُقْمَ بَعْدَهَا وَ الرِّضَا الَّذِي لَا سَخَطَ
بَعْدَهُ وَ الْأَمْنُ الَّذِي لَا خَوْفَ بَعْدَهُ وَ الْحَيَاةُ الَّتِي لَا
مَوْتَ بَعْدَهَا وَ الْمُلْكُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ هِيَ دَارُ الْبَقَاءِ وَ
دَارُ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَا انْقِطَاعَ لَهَا وَ لَا تَغَيُّرَ فِيهَا رَفَعَ
اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَنْ سَاكِنِيهَا فِيهَا السُّقْمَ وَ الْهَرَمَ وَ
الشَّقَاءَ وَ النَّصَبَ وَ الْمَرَضَ وَ الْجُوعَ وَ الظَّمَأَ وَ الْمَوْتَ
فَهَذِهِ صِفَةُ مُلْكِ الْآخِرَةِ وَ خَبَرُهَا أَيُّهَا الْمَلِكُ.
قَالَ الْمَلِكُ وَ هَلْ تُدْرِكُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ مَطْلَباً وَ إِلَى
دُخُولِهَا سَبِيلًا قَالَ الْوَزِيرُ نَعَمْ هِيَ مُهَيَّأَةٌ لِمَنْ طَلَبَهَا
مِنْ وَجْهِ مَطْلَبِهَا وَ مَنْ أَتَاهَا مِنْ بَابِهَا ظَفِرَ بِهَا قَالَ
الْمَلِكُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِهَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ قَالَ
الْوَزِيرُ مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ إِجْلَالُكَ وَ الْهَيْبَةُ لِسُلْطَانِكَ قَالَ
الْمَلِكُ لَئِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي وَصَفْتَ يَقِيناً فَلَا يَنْبَغِي
لَنَا أَنْ نُضَيِّعَهُ وَ لَا نَتْرُكَ الْعَمَلَ بِهِ فِي إِصَابَتِهِ وَ
لَكِنَّا نَجْتَهِدُ حَتَّى يَصِحَّ لَنَا خَبَرُهُ قَالَ الْوَزِيرُ أَ
فَتَأْمُرُنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنْ أُوَاظِبَ عَلَيْكَ فِي ذِكْرِهِ وَ
التَّكْرِيرِ لَهُ قَالَ الْمَلِكُ بَلْ آمُرُكَ أَنْ لَا تَقْطَعَ عَنِّي ذِكْرَهُ
لَيْلًا وَ لَا نَهَاراً وَ لَا تُرِيحَنِي وَ لَا تُمْسِكَ عَنِّي ذِكْرَهُ
فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ لَا يُتَهَاوَنُ بِهِ وَ لَا يُغْفَلُ عَنْ مِثْلِهِ
وَ كَانَ سَبِيلُ ذَلِكَ الْمَلِكِ وَ الْوَزِيرِ إِلَى النَّجَاةِ.
قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ مَا أَنَا بِشَاغِلٍ نَفْسِي بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ
الْأُمُورِ عَنْ هَذَا السَّبِيلِ وَ لَقَدْ حَدَّثْتُ نَفْسِي بِالْهَرَبِ مَعَكَ
فِي جَوْفِ اللَّيْلِ حَيْثُ بَدَا لَكَ أَنْ تَذْهَبَ.
قَالَ بِلَوْهَرُ وَ كَيْفَ تَسْتَطِيعُ الذَّهَابَ مَعِي وَ الصَّبْرَ عَلَى
صُحْبَتِي وَ لَيْسَ لِي جُحْرٌ يَأْوِينِي وَ لَا دَابَّةٌ تَحْمِلُنِي وَ لَا
أَمْلِكُ ذَهَباً وَ لَا فِضَّةً وَ لَا أَدَّخِرُ غِذَاءَ الْعِشَاءِ وَ لَا
يَكُونُ عِنْدِي فَضْلُ ثَوْبٍ وَ لَا أَسْتَقِرُّ بِبَلْدَةٍ إِلَّا قَلِيلًا
حَتَّى أَتَحَوَّلَ عَنْهَا وَ لَا أَتَزَوَّدُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى
رَغِيفاً أَبَداً.
قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ يُقَوِّيَنِي الَّذِي قَوَّاكَ قَالَ
بِلَوْهَرُ أَمَا إِنَّكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا صُحْبَتِي كُنْتَ خَلِيقاً أَنْ
تَكُونَ كَالْغَنِيِّ الَّذِي صَاهَرَ الْفَقِيرَ.
قَالَ يُوذَاسُفُ وَ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ قَالَ بِلَوْهَرُ زَعَمُوا أَنَّ فَتًى
كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَغْنِيَاءِ فَأَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَةَ
عَمٍّ لَهُ ذَاتَ جَمَالٍ وَ مَالٍ فَلَمْ يُوَافِقْ ذَلِكَ الْفَتَى وَ لَمْ
يُطْلِعْ أَبَاهُ عَلَى كَرَاهَتِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُتَوَجِّهاً
إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى فَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ عَلَى جَارِيَةٍ عَلَيْهَا ثِيَابٌ
خُلْقَانٌ لَهَا قَائِمَةٍ عَلَى بَابِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْمَسَاكِينِ
فَأَعْجَبَتْهُ الْجَارِيَةُ فَقَالَ لَهَا مَنْ أَنْتِ أَيَّتُهَا الْجَارِيَةُ
قَالَتْ أَنَا ابْنَةُ شَيْخٍ كَبِيرٍ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَنَادَى الْفَتَى
الشَّيْخَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ هَلْ تُزَوِّجُنِي ابْنَتَكَ هَذِهِ
قَالَ مَا أَنْتَ بِمُتَزَوِّجٍ لِبَنَاتِ الْفُقَرَاءِ وَ أَنْتَ فَتًى مِنَ
الْأَغْنِيَاءِ قَالَ أَعْجَبَتْنِي هَذِهِ الْجَارِيَةُ وَ لَقَدْ خَرَجْتُ
هَارِباً مِنِ امْرَأَةٍ ذَاتِ حَسَبٍ وَ مَالٍ أَرَادُوا مِنِّي تَزْوِيجَهَا
فَكَرِهْتُهَا فَزَوِّجْنِي ابْنَتَكَ فَإِنَّكَ وَاجِدٌ عِنْدِي خَيْراً إِنْ
شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الشَّيْخُ كَيْفَ أُزَوِّجُكَ ابْنَتِي وَ نَحْنُ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُنَا
أَنْ تَنَقُلَهَا عَنَّا وَ لَا أَحْسَبُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَكَ يَرْضَوْنَ
أَنْ تَنْقُلَهَا إِلَيْهِمْ قَالَ الْفَتَى فَنَحْنُ مَعَكُمْ فِي مَنْزِلِكُمْ
هَذَا قَالَ الشَّيْخُ إِنْ صَدَقْتَ فِيمَا تَقُولُ فَاطْرَحْ عَنْكَ زِيَّكَ وَ
حِلْيَتَكَ هَذِهِ قَالَ فَفَعَلَ الْفَتَى ذَلِكَ وَ أَخَذَ أَطْمَاراً رَثَّةً
مِنْ أَطْمَارِهِمْ فَلَبِسَهَا وَ قَعَدَ مَعَهُمْ فَسَأَلَهُ الشَّيْخُ عَنْ
شَأْنِهِ وَ عَرَضَ لَهُ بِالْحَدِيثِ حَتَّى فَتَّشَ عَقْلَهُ فَعَرَفَ أَنَّهُ
صَحِيحُ الْعَقْلِ وَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى مَا صَنَعَ السَّفَهُ فَقَالَ
لَهُ الشَّيْخُ أَمَّا إِذَا اخْتَرْتَنَا وَ رَضِيتَ بِنَا فَقُمْ مَعِي إِلَى
هَذَا السَّرْبِ فَأَدْخَلَهُ فَإِذَا خَلْفَ مَنْزِلِهِ بُيُوتٌ وَ مَسَاكِنُ لَمْ
يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ سَعَةً وَ حُسْناً وَ لَهُ خَزَائِنُ مِنْ كُلِّ مَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَهُ وَ قَالَ لَهُ إِنَّ كُلَّ
مَا هَاهُنَا لَكَ فَاصْنَعْ بِهِ مَا أَحْبَبْتَ فَنِعْمَ الْفَتَى أَنْتَ وَ
أَصَابَ الْفَتَى مَا كَانَ يُرِيدُهُ.
قَالَ يُوذَاسُفُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَ هَذَا الْمَثَلِ
إِنَّ الشَّيْخَ فَتَّشَ عَقْلَ هَذَا الْغُلَامَ حَتَّى وَثِقَ بِهِ فَلَعَلَّكَ
تَطَوَّلُ بِي عَلَى تَفْتِيشِ عَقْلِي فَأَعْلِمْنِي مَا عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ
قَالَ الْحَكِيمُ لَوْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَيَّ لَاكْتَفَيْتُ مِنْكَ
بِأَدْنَى الْمُشَافَهَةِ وَ لَكِنَّ فَوْقَ رَأْسِي سُنَّةً قَدْ سَنَّهَا
أَئِمَّةُ الْهُدَى فِي بُلُوغِ الْغَايَةِ فِي التَّوْفِيقِ وَ عِلْمِ مَا فِي
الصُّدُورِ فَأَنَا أَخَافُ إِنْ خَالَفْتُ السُّنَّةَ أَنْ أَكُونَ قَدْ
أَحْدَثْتُ بِدْعَةً وَ أَنَا مُنْصَرِفٌ عَنْكَ اللَّيْلَةَ وَ حَاضِرٌ بَابَكَ
فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَفَكِّرْ فِي نَفْسِكَ بِهَذَا وَ اتَّعِظْ بِهِ وَ
لْيَحْضُرْكَ فَهْمُكَ تَثْبُتْ وَ لَا تَعْجَلْ بِالتَّصْدِيقِ لِمَا يُورِدُهُ
عَلَيْكَ هَمُّكَ حَتَّى تَعْلَمَهُ بَعْدَ التُّؤَدَةِ وَ الْأَنَاةِ وَ عَلَيْكَ
بِالاحْتِرَاسِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَغْلِبَكَ الْهَوَى وَ الْمَيْلُ إِلَى
الشُّبْهَةِ وَ الْعَمَى وَ اجْتَهِدْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَظُنُّ أَنَ
فِيهَا شُبْهَةً ثُمَّ كَلِّمْنِي فِيهَا وَ أَعْلِمْنِي رَأْيَكَ فِي الْخُرُوجِ
إِذَا أَرَدْتَ وَ افْتَرَقَا عَلَى هَذَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ
ثُمَّ عَادَ الْحَكِيمُ إِلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَ دَعَا لَهُ ثُمَّ جَلَسَ
فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ أَنْ قَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ الْأَوَّلَ الَّذِي لَمْ
يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَ الْآخِرَ الَّذِي لَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ وَ
الْبَاقِيَ الَّذِي لَا مُنْتَهَى لَهُ وَ الْوَاحِدَ الْفَرْدَ الصَّمَدَ الَّذِي
لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَ الْقَاهِرَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ الْبَدِيعَ الَّذِي
لَا خَالِقَ مَعَهُ الْقَادِرَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ الصَّمَدَ الَّذِي لَيْسَ
لَهُ نِدٌّ الْمَلِكَ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ أَنْ يَجْعَلَكَ مَلِكاً
عَدْلًا إِمَاماً فِي الْهُدَى قَائِداً إِلَى التَّقْوَى وَ مُبْصِراً مِنَ
الْعَمَى وَ زَاهِداً فِي الدُّنْيَا وَ مُحِبّاً لِذَوِي النُّهَى وَ مُبْغِضاً
لِأَهْلِ الرَّدَى حَتَّى يُفْضِيَ بِنَا وَ بِكَ إِلَى مَا وَعَدَ اللَّهُ
أَوْلِيَاءَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ مِنْ جَنَّتِهِ وَ رِضْوَانِهِ
فَإِنَّ رَغْبَتَنَا إِلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ سَاطِعَةٌ وَ رَهْبَتَنَا مِنْهُ
بَاطِنَةٌ وَ أَبْصَارَنَا إِلَيْهِ شَاخِصَةٌ وَ أَعْنَاقَنَا لَهُ خَاضِعَةٌ وَ
أُمُورَنَا إِلَيْهِ صَائِرَةٌ.
فَرَقَّ ابْنُ الْمَلِكِ لِذَلِكَ الدُّعَاءِ رِقَّةً شَدِيدَةً وَ ازْدَادَ فِي
الْخَيْرِ رَغْبَةً وَ قَالَ مُتَعَجِّباً مِنْ قَوْلِهِ أَيُّهَا الْحَكِيمُ
أَعْلِمْنِي كَمْ أَتَى لَكَ مِنَ الْعُمُرِ فَقَالَ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً
فَارْتَاعَ لِذَلِكَ وَ قَالَ ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً طِفْلٌ وَ أَنْتَ
مَعَ مَا أَرَى مِنَ التَّكَهُّلِ لِابْنِ سِتِّينَ سَنَةً قَالَ الْحَكِيمُ أَمَّا
الْمَوْلِدُ فَقَدْ رَاهَقَ السِّتِّينَ سَنَةً وَ لَكِنَّكَ سَأَلْتَنِي عَنِ
الْعُمُرِ وَ إِنَّمَا الْعُمُرُ الْحَيَاةُ وَ لَا حَيَاةَ إِلَّا فِي الدِّينِ وَ
الْعَمَلِ بِهِ وَ التَّخَلِّي مِنَ الدُّنْيَا وَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِي إِلَّا
مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنِّي كُنْتُ مَيِّتاً
وَ لَسْتُ أَعْتَدُّ فِي عُمُرِي بِأَيَّامِ الْمَوْتِ قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ
كَيْفَ تَجْعَلُ الْآكِلَ وَ الشَّارِبَ وَ الْمُتَقَلِّبَ مَيِّتاً قَالَ
الْحَكِيمُ لِأَنَّهُ شَارَكَ الْمَوْتَى فِي الْعَمَى وَ الصَّمِّ وَ الْبَكَمِ وَ
ضَعْفِ الْحَيَاةِ وَ قِلَّةِ الْغِنَى فَلَمَّا شَارَكَهُمْ فِي الصِّفَةِ
وَافَقَهُمْ فِي الِاسْمِ.