تفسير سوره فاتحة الكتاب

سيد جلال الدين آشتيانى

- ۱۰ -


فللّه , فمن كشف له عن ساق الحقيقه وشاهد الامر على ماهو عليه فى الاصل لاتحجبه استارالاسباب وسجاف الوسائط والروابط عن شهودالمتصرف فى الكل , ويرى اعيان الاكوان متلاشيه منعدمه تحت سـطـوات قهرالوحدانيه , ويسمع الان بالقا سمعه خطاب الفردانيه بالجواب , وهو قوله : لمن الملك الـيـوم للّه الـواحد القهار ((165)) فيصيرالموعود فى حقه موجودا مشهودا, وعجل له مااجل لغيره , ومـن لـم تـنـفـتـح بـصـيـرتـه واسـبـل حـجاب الكون عن عين قلبه يرى التصرفات الواصله اليه بـوسـائطـالاسباب , حتى عبر الاسباب حتى اذا كشف غطاالبشريه عن بصيرته فيصير بصره حينئذ حديدا,يشاهدالامر على ماهو عليه , ويرى ان كل نعمه وخير وطاعه صدرت منه او من غيره واضافها الـى الاسـبـاب لـيـسـت هـو منهاحقيقه , بل كان موجدها وخالقها ومالكها هوالمتصرف الحقيقى , ويـخـاطـب بـقـولـه سـبـحـانـه : لـقد كنت فى غفله من هذافكشفنا عنك غطاك فبصرك اليوم حديد ((166)) .
ولـهـذا اقـت واجـل هـذاالـمـشهود فى حقهم الى يوم الدين , والمراد باليوم هاهنا هو وقت الكشف والـظهور, لانه ينكشف بضيا اليوم مايتوارى بظلمه الليل , لااليوم العرفى , لعدم الشمس ثمه كما قال سـبـحانه : لايرون فيها شمسا ((167)) واذا تعذرحمله على العرف صرفناه الى اصل اللغه , وهوالوقت ليلا كان او نهارا.
والـديـن جـزاالاعـمال الصادره عن المكلف , وسمى به القيامه , لوقوع الجزا فيها, ويحتمل ان يقال : اضـاف مـالـكـيـتـه الـى يـوم الـديـن , لاسـباغ النعم , واظهارالفضل والكرم فى حقالانسان , وذلك لانالاعمال الصادره عن المكلف اذا كان مالكها ومحض الفضل واللطف منه تعالى وتقدس .
وحـاصل الكلام انالشكر والعبوديه مطلقا لا المنعم المطلق والمعبود الحق الذى تفرد باسدا الفضل والنعم , وتوحدبابدااللطف والكرم .
والـكـيـس المتفطن اذا امعن النظر وعاين وباشر وانكشف له عن الاطوار الطارئه والاحوال الجاريه عليه من بدو امره الى منقطع اثره ينكشف له ان للانسان ثلاثه منازل :.
الاول : منزل العدم .
والثانى : منزل الدنيا.
والثالث : منزل الاخره .
والحق تعالى هيا له فى كل منزل من هذه المنازل نزلا من كرمه , وجزيلا من نعمه .
ففى العدم هيا له نعمه استعداد, وهوالوجود الغيبى بالفيض الاقدس الالهى , وفى الدنيا هيا له [كذا] مـتـرادفـه , ونـعـمـامـتواتره بالفيض الربانى الرحمانى , وهو اخراج ما اودع فى استعداده من القوه الـى الـفـعل , ومن الوجود الغيبى الى الوجودالعينى , بدا بتقليب قالبه فى الاطوار الترابيه والنطفيه والعلقيه والمضغيه والعظميه واللحميه , ثم نفخ فيه الروح ,وانشاالقوى الظاهره والباطنه من الحس والحركه والقدره والعلم والاراده والنطق والتمييز والعقل والفهم والايمان والمعرفه , وغير ذلك الى ان بـلـغ مبلغ كماله المقدر له , وفى الاخره اعد له من النعيم ما لاعين رات ولااذن سمعت ولاخطر على قلب بشر بالفيض الرحيمى المالكى .
فـاذا تـامـل فى نفسه هذاالمتامل يرى نفسه مستغرقه فى بحارالنعم الالهيه من المبدا الى المعاد, فكيف يتصور له ان يشرك باللّه فى الشكر والعبوديه , و نتيجه الجهل بحقيقه الحال ؟
ومن باشر قلبه نوراليقين , واكتحلت بصيرته بنورمشاهده الحق ا ا صرف العبوديه للّه .
فـقـولـه تـعـالـى : مـالـك يوم الدين معناه مالك النفع والضر فى يوم الجزا, يجزئالمحسن والمسئ نفع الثواب وضر العقاب .
لـيـس لاحد يومئذ قدره النفع والاضرار بالغير كما قال تعالى : ;ژخ& فاليوم لايملك بعضكم لبعض نفعا ((169)) .
.
¨سق ((168)) وكـقوله : ثم ماادراك مايوم الدين يوم لاتملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ للّه وتـخـصـيـص مـالكيه الحق تعالى بيوم الدين , كما سبق فى حق المحجوبين برويه اثرالضر والنفع من اللّه تعالى فى الدنيابواسطه الاسباب عن رويه المسبب الضار النافع فى الدنيا والاخره .
وفى يوم القيامه اذا ارتفع الحجاب وتقطعت بهم الاسباب عن [رويه المسبب ((170)) الضار النافع ] وتـجـرد الـقـدره عـن الـحكمه , واذن موذن الكبريا فى عرصه البقا بعدالفنا من مبدئيه العز والعلا: لـمـن الـمـلـك ؟
واجاب بنفسه لنفسه للّه الواحدالقهار, ترى الكل يومئذ تفرد الحق تعالى بالملك , وهـذاالـوعـد فى حقالموقنين عين النقه [كذا] ازلف لهم اليوم موعودالحق غير بعيد, وقيل : هذا ما توعدون لكل اواب حفيظ.
واذا تقرر انالمعبود ينبغى ان يملك النفع والضر ـ ه منه , فلذلك اردف قوله مالك يوم الدين بقوله : اياك نعبد واياك نستعين قدم المفعولين على فعليهما لاختصاص ا ا اياك .
وهـذا هـو الاخـلاص الـمـامـوربـه فـى العبوديه , ومعنى الاخلاص : اخراج الخلق عن معامله الرب , ولايتحقق هذا اه اللّه ,واخلصه عن شوائب وجوده , فلايرى انه خلص لان وجوده من الخلق , فما اخرج الخلق بالكليه .
قـال ابـوبـكـرالوراق : نقصان ((171)) كل مخلص فى اخلاصه رويه اخلاصه , فاذا اراد اللّه ان يخلص اخلاصه اسقط عن اخلاصه رويه اخلاصه , فيكون مخلصا لامخلصا.
ورد فـى الـحـديـث عـن اللّه تـعالى الاخلاص سر من سرى استودعته قلب من احببت من عبادى , فلايطلع عليه احدغيراللّه , ولايقدر على ا اللّه .
وكما ان محلالاخلاص فى الادمى هوالقلب , فكذلك ذكره فى الفاتحه وقع موقع القلب منها, لان اللّه تعالى قسم الفاتحه بينه وبين العبد قسمين : قسما لنفسه خاصه وهو من الحمد الى يوم الدين , وقسما لـعـبـده خاصه وهو من اهدنا الى الضالين ,وجعل بين القسمين ذكرالاخلاص وقال : هذا بينى وبين عبدى , واذا امراللّه بالاخلاص فى العبوديه استعقب ذلك ببيان ماهيه العبوديه , وامرنا بالدعا لطلبها, فـقـال : اهـدنـاالـصـراطالمستقيم نيابه عنا اى ادعونى وقولوا ارشدنا الى حقيقه العبوديه التى هى الاسـتـقـامـه عـلـى صراط الاعتدال بين الحق الظاهرالمبين وبين الباطن المستور بصوره الخلق فـى عالم الشهاده , وعن حقيقه ذلك اناللّه تعالى واحد بالذات كثير بالصفات والافعال , خلق بصفاته الـمـتـعدده العالم المشتمل على الاشياالمختلفه , ورتبها بحكمته ترتيبا من اعلى عليين الى اسفل سـافـلـين , وجعلها حجبا واستارا نورانيه وظلمانيه ستربها سبحات وجهه الكريم , عزه واجلالا وابقا للكون , لئد ينحل ذلك الوجود عن نظامه انحلالا, كما وردفى الخبر: ان للّه سبعين الف حجاب من نور وظلمه , لوكشف واحدا منها لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه .
وهذه اشاره الى ان وجودالاسباب بالكليه واثبات الافعال سبب لنظام عالم الصوره والشهاده , ونظام عـالـم الـشـهـاده سـبـب نظام عالم الغيب , ولو كشف حجاب الاسباب بالكليه لارتفع حكم الاعمال والاكـسـاب والخير والشر والطاعه والعصيان والاساه والاحسان , ولتطرق الفساد الى البلاد والعباد, وانحل نظام امر المعاش والمعاد.
فـالحق فى عالم الغيب هوالظاهر المبين , وفى عالم الشهاده هوالباطن المستور, وستر وجه وحدته بـحـجـاب الـكثره , والعبدمطالب عن السيد بصرف التوحيد, نظرا الى الحق المبين فى عالم الغيب , وبـالفرق بين الحق والباطل , نظراالى الحق المستور فى عالم الشهاده , ومامور بالاستقامه على حاق الـوسـط بـيـن هـذيـن الـطـرفـين , لانه تعالى خلقه ذا تركيب مختلف , ووهب له روحا علويه من عـالـم الـغـيـب , لينظر بعينها الى الحق المستور, وقلبا متولدا منهما جمع فيه سرالعالمين , وجعله حـاجـزابـيـن الـروح والـنـفـس , وبـرزخا بين هذين البحرين لايبغيان , وجعل لهذاالقلب عينين , لينظرباحدهما الى عالم الغيب وبالاخرى الى عالم الشهاده .
ولقد مناللّه على الانسان بذلك حيث قال : الم نجعل له عينين .
فـالقلب السليم المستقيم هو الذى سلمت عيناه , واعتدل جانباه , لينظر بهما معا الى عالمى الغيب والـشـهـاده والحق المبين والمستور والوحده والكثره والقدره والحكمه , تكتحل عينه اليمنى بنور مشاهده الوجه الباقى , وعينه اليسرى بنور مطالعه آيات الصفات والافعال .
ومن فقد عينا منهما واد عى انه على الصراطالمستقيم وصاحب النطق السليم هو دجال وقته , فاما ينظر الى عالم القدره والوحده بالعين اليمنى فقط, فيحكم باسقاط الاعمال واستوا الحرام والحلال , وذلـك مـحـض الـضلال ـنعوذ باللّه ـ او الى عالم الحكمه والكثره بالعين اليسرى فيثبت اربابا وآلهه متعدده ويدعو لها, فسيكفى اللّه شره , وللصوفيه فى هذين النظرين اصطلاح يعبرون عنهما بالجمع والتفرقه , يسيرون بلفظالجمع الى التوحيد, وبالتفرقه الى العبوديه .
قال ((172)) الجنيد: القرب بالوجد جمع , وغيبته فى البشريه تفرقه .
وقـال الـواسطى : اذا نظرت الى نفسك فرقت , واذا نظرت الى ربك جمعت , واذا كنت قائما بغيرك فانت فان بلاجمع وتفرقه .
وقـالـوا: الـجـمع ((173)) بلاتفرقه زندقه , والتفرقه بلاجمع تعطيل , واجتماع الجمع والتفرقه هو الدين القويم والصراطالمستقيم وذلك اقصر طريق واقوم سبيل الى اللّه تعالى , لان اقصر طريق الى كل مقصد, وهو خط مستقيم يمتد من المبدا الى المقصد, والاهتدا الى ذلك غير يسير جدا.
اشار الى ذلك قول النبير: استقيموا ولن تحصوا وقوله ر: شيبتنى سوره هود.
راى بـعض الصالحين رسول اللّه ر فى منامه , فقال له : روى عنك انك قلت : شيبتنى سوره هود فما الـذى شيبك منها,قصص الانبيا وهلاك الامم ؟
فقال : لا, ولكن قوله : فاستقم كما امرت فلانهتدى الـى ا بـهـدايه اللّه تعالى , وهى اشرف مامول , واكرم مسوول نبهنا اللّه تعالى على سواله منه , فلذلك عينه ولم يكل الينا السوال منه , ولولا تنبيهه وتعيينه لسالنامنه بمبلغ علمنا القاصر مالاينفعنا.
قـال ابـوعـلـى الـجـرجـانى : كن طالب الاستقامه لاطالب الكرامه , فان نفسك متحركه فى طلب الكرامه , وربك يطالبك بالاستقامه .
وقـولـه هـذا لان الاسـتـقـامـه كـل الـكرامه , فمن فاز بها فاز بجميع الكرامات , وقيل : الاستقامه الكليه ان لايتطرق الى المعاملات فتره , ولاالى المنازلات وقفه , ولاالى المواصلات حجبه .
وامـا قـولـه تعالى : صراط الذين انعمت عليهم بدل عن المفعول لما سبق من الاستقامه , وهى كل الـكـرامـه , لانـهـا هى النعمه التى انعمها اللّه على خواص عباده , وهم النبيون والصديقون والشهدا والصالحون , لقوله : ومن يطع اللّه والرسول فاولئك مع الذين انعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والـشهدا والصالحين ((174)) واذا بين الصراط المستقيم وعينه استثنى منه الطرفين المذمومين اسـتثنا منقطعا, فقال : غير المغضوب عليهم اى اهل التفرقه ولاالضالين اى اهل الجمع ,لان غضب اللّه تعالى عباره عن الابعاد, واهل التفرقه بعدوا عن اللّه برويه الاسباب من غير مسبب , والضلال فقد الـطـريـق الـمستقيم , واهل الجمع ضلوا الطريق المستقيم بانحرافهم الى جانب الجمع , ورويتهم المسبب دون الاسباب , والضلال الذى هو فقد الطريق يشعر بسابقه وجد.
فـاهـل الـضـلال ضلوا الطريق بتجاوزهم الحد, لانهم وجدوا الحق باثبات الفعل للّه مطلقا, وضلوه بـاسـقاط الاضافات عن جهات الاسباب , وكشف الحجاب الذى يحرق اعيان الاكوان عن وجه الحق المستور.
وامـا اهـل التفرقه لم يجدوا من الحق شيئا اصلا, فلذلك اشير اليهم بالغضب والبعد عن اللّه تعالى , والـى اهـل الـجـمع بالضلال , فحال المغضوب اليه استوا بالنسبه الى نفسه , وتقديم استثنائه يوذن بذلك .
ويـقـرب مـن معنى الجمع والتفرقه معنى الجبر والقدر, لان الجبريه اسقطوا اضافات الافعال الى جهه الاسباب , واثبتواالفعل للّه مطلقا من غير تفصيل , والقدريه اثبتوا الافعال لانفسهم واحالوا على اختيارهم صدور كل خير وشر يبدوبسببهم , وهذان الفريقان يتحاذيان فى طرفى الافراط والتفريط.
والحق الصريح هو الجبر مع القدر نظرا الى المسبب والى سبب القريب .
وقـوله تعالى : وما رميت اذ رميت ((175)) بيان لذلك , لان نفى الرمى المثبت له عنه فنفئ واثبات معا, وسئل جعفرالصادق (ع ) عن الجبر والقدر, فقال : لاجبر ولاتفويض ولكن امر بين امرين .
وهـذا الـذى ذكـرنـاه احـد اقـسـام الاستقامه , لان الاستقامه اما فى العلوم الصريحه والاعتقادات الصحيحه كما سبق ذكرها,او فى الاخلاق او فى الاحوال .
امـا فـى الاخلاق فيجب رعايه الاعتدال بين طرفى الافراط والتفريط, والاستقامه على حد الوس ط فـى كـل خـلـق , والاحـترازعن الوقوع فى احد الطرفين , كما قال آدم الاوليا وسر الانبيا اجمعين , عـليبن ابى طالب (ع ): اليمين والشمال مضلتان ,والطريق الوسطى هى الجاده كالسخاوه التى هى الاعـتـدال بـيـن البخل والاسراف , والشجاعه بين التهور والجبن ,والتواضع بين الاستعلا والضعه , والعزه بين الكبر والذله .
فهذه الاوساط وامثالها هى الفضائل , واطرافها هى الرذائل .
والفضائل كلها طريق الجنه والوصول الى جنات القرب .
فالتواضع والعزه والسخاوه والشجاعه كل واحد صراط مستقيم ممتد على متن النار, ويمرون عليه اهل الجنه مستقيمين معتدلين غير منحرفين ((176)) الى احد الطرفين , ومن انحرف عنه ولو قدر ذره فـقد يقع فى النار, فالتواضع صراطمستقيم ممتد على متن نار الاستعلا والضعه , فمن انحرف عنه وقع فى نار الاستعلا او فى نار الضعه .
والـعـزه صراط مستقيم ممتد على متن نار الكبر والذله , فمن انحرف عنه وقع فى احدهما, وعلى هذا فقس .
والـكـلام نـبـه على الاعتدال المذكور بقوله سبحانه وتعالى : والذين اذا انفقوا لميسرفوا ولم يقتروا وكـان بـيـن ذلـك قواما,وهذان الطرفان وان كانا مذمومين , لكن طرف التفريط اذم , لان المفرط لـم يـصل الى الوسط اصلا, والمفرط تجاوز عنه بعدالوصول اليه , فالمفرط مغضوب عليه , والمفرط ضال, فالمفرط صاحب الشمال والمفرط صاحب اليمين , واليمين والشمال مضلتان .
وامـا فـى الاعـمـال , فـمعنى الاستقامه فيه ثبات العزيمه على العمل وملازمه الاقتصاد فى صوره العمل بين اتعاب الجوارح بحمل مالاطاقه للنفس به عليها, وبين عزالدين بانواع النوافل والقربات .
فـتـاره يـاتـى الـعـبـدالـمـستقيم فى العمل النوافل والزيادات سياسه للنفس , وتاره يتركها رمها بـالـنـفـس ((177)) , والـفتره فى صوره العمل لاتقدح فى الاستقامه , لان المراد بها هاهنا هو ثبات العزيمه على العمل , وصونها عن الفتور, لادوام صوره العمل .
وامـا فـى الاحـوال , فـالـوقـوف عـلى حد الوسط بين طرفى الروحانيه والجسمانيه برعايه الصوره والـمـعـنـى , وعـمـاره الـدنياوالعقبى والترك والاخذ والوحده والخلطه وغيرها هو الاستقامه فى الاحوال , ومقام اهل الكمال , لان الاعراض عن الدنياوترك لذاتها بالكليه مقام الزهد, والتعريج على تـنـاول الـلـذات والاسترسال فى اخذ الشهوات مقام الرغبه , واهل الكمال لايقيدهم مقام ((178)) , ولايـحـصـرهـم مـرام , لانـهـم مـتخلصون بالزهد عن اختيار نفوسهم الدنيا اولا, وبترك الاختيار مـطـلـقاعن اختيار الزهد ثانيا, وبوجود اختيار الحق عن ترك الاختيار ثالثا, فيختارون الترك تاره والاخذ اخرى , واختيارهم فى الحالتين اختيار الحق , لانهم به لابانفسهم .
وكـذلك دوام الوحده والعزله , فدوام الوحده يشعر بشرك خفى , ووجود بقيه حجاب الخلق , ودوام الـمـخـالـطـه على ظن التمكين , وعدم التغى ر بشئ ينبئ عن بقيه سكر الحال والانحراف عن حد الاعتدال .
والـرسـول ر فاق جميع الانبيا, وفاز من بينهم بكمال الاعتدال فى الاحوال , لاتمنعه رعايه الحقوق الـروحـانـيـه واسـتـيـفاوهابكمالها عن ادا الحقوق النفسانيه , ولابالعكس , بل كمال كل واحد من الـطـرفين كان سببا لمزيد الاخر فى حقه , لكمال استقامته على الدين القويم والصراط المستقيم , فلم يتقيد باخذ الدنيا ولابتركها, بل كان مخيرا فى الترك والاخذ, كلماشا واراد اخذ واعطى وتبس ط بـذلك , وكلما شا ترك وقنع عن الدنيا بالتقلل والزهد, ومشيئته فى كلا الطرفين من مشيئه الحق سبحانه .
واللّه تـعـالـى امـر الـنبير بالاستقامه على صراط الاعتدال بقوله : ولاتجعل يدك مغلوله الى عنقك ولاتبسطها كل البسطحتى امر جميع امته بها فقال : كلوا واشربوا ولاتسرفوا.
وفـى مـلـه مـوسـى وعـيـسى وغيرهما من الانبيا صلوات اللّه عليهم اجمعين انحراف ما عن هذا الاعتدال الى احدالجانبين .
فـمـوسـى (ع ) مـع كـمال معناه بالغ فى رعايه طرف الصوره وعماره عالم الشهاده , ويهيب الامور ووقعها فى قلوب بنى اسرائيل فى تعظيم الظواهر والصور, حتى امر ان تكتب التوراه بالذهب , ورغب الامـه فـى فـعل الخيرات , ورهبهم لترك المنكرات , ولايمنعهم عن التبسط والتوسع فى ذلك كل البسط.
ففى ذلك انحراف ما عن صراط الاعتدال والاستقامه .
وعـيـسى (ع ) مع رعايه عماره الصوره اعرض عن الدنيا ولذاتها وشهواتها اعراضا فوق حد الاعتدال , ورغـب الامه فى التقلل والتزهد, ودعاهم الى الرهبانيه التى ليست فى الاسلام , وذلك انحراف عن سـنن الاستقامه وصراط الاعتدال ,وميل الى الطرف الروحانى وعالم الغيب , ولذلك سمى روح اللّه , لما غلب عليه من الروحانيه .
وهـذه الـحـال وان جـل وقـل , ولكنه قاصر عن درك شاو ((179)) حال النبير فى الدعوه الجامعه المستقيمه القائمه الى يوم القيامه .
ولـمـا كان التهود ميلا الى عالم الصوره , والتنصر ميلا الى عالم المعنى والغيب , خص اليهود بانهم المغضوب عليهم ,والنصارى بانهم الضالون .
ورد فـى الـحـديث ان النبير اشار الى اليهود وقال : هولاهم المغضوب عليهم والى النصارى وقال : هولاهم الضالون والدعوه العيسويه لما غلب عليها الطرف الروحانى لها نسبه الى الشرق , لان العالم الـروحـانى محل كشف حقائق الغيوب , كما ان الشرق فى عالم الصوره محل كشف الظواهر ومطلع النجوم الزواهر.
والاشاره الى ماذكرنا من النسبه الى الشرق قوله تعالى فى قصه مريم وعيسى ]: اذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا ((180)) .
والدعوه الموسويه لما غلب عليها من رعايه الصوره لها نسبه الى الغرب فى عالم الصوره والشهاده , والـشـهـاده مـحـل الـستر, وكانت غيبوبه شمس حقيقه الحق المبين فيه , كما ان الغرب فى عالم الصوره مكان غيبوبه الشمس فيه , ومبداسير الاشيا الظاهره فيه .
واومئ الى قوله سبحانه خطابا لنبيه ر: وما كنت بجانب الغربى اذ قضينا الى موسى الامر ((181)) .
والـدعوه المحمديه دعوه جامعه مستقيمه معتدله , لاميل فيها الى احد الجانبين , كشجره مباركه زيـتـونـه لاشـرقـيه ولاغربيه , فهى منسوبه الى استوا الشمس فى كبد السما, لاميل لها الى الشرق ولاالى الغرب .
ولـهذا ـ واللّه اعلم ـ سميت الظهر صلاه الاولى والوسطى , لان الظهر اول وقت بعد كمال الاستوا, وهـذه الصلاه هى اول وقت من اوقات الصلوات التى اتى بها جبرئيل (ع ) واهداها الى حضره الرساله بعد كمال استوا حاله .
وايـضـا هذه الصلاه هى الواسطه بين طرفى النهار, اعنى الصبح والمغرب والمحاكيه لصوره استوا حال النبير فى حاق الوسط بين الطرفين المذمومين , فلذلك سم يت وسطى .
وكما ان دعوه عيسى شرقيه , ودعوه موسى غربيه , فدعوه محمدر استوائيه .
والاستوائيه لاشرقيه ولاغربيه .
ولكل صاحب دعوه قبله فى عالم الصوره محاكيه لصوره دعوته فى عالم المعنى , فقبله موسى (ع ) غـربيه , وقبله عيسى (ع ) شرقيه , وقبله محمدر متوسطه بينهما, كما قيل : مابين المشرق والمغرب قـبله وقال سبحانه وتعالى : سيقول السفها من الناس ماوليههم عن قبلتهم التى كانوا عليها, قل للّه المشرق والمغرب يهدى من يشا الى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم امه وسطا لتكونوا شهدا على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ((182)) .
ولـكـل واحـده من هذه الدعوات الثلاث خصوصيه مناسبه لصوره ماينسب اليه من الشرق والغرب والاسـتوا, لان اوضاع كل مله وشعائرها آيات وعلامات تلوح من صفحاتها انوار اسرار تلك المله لمن اكتحلت بصيرته بنور الايقان .
ف ان وقت الطلوع يظهر النور على الظلمه ويسترها شيئا فشيئا حتى يغشاها بالكليه .
ووقـت الغروب تغلب فيه الظلمه على النور وتزداد حتى يغشا بالكليه , وكل من الدعوتين الشرقيه والـغربيه مشتمله على نور وظلمه باعتبار اظهار بعض الحق بها وبقا بعضه مستورا, لان النور يظهر والـظـلـمه تستر, والدعوه المحمديه اذا كانت استوائيه لم يختلط فيها ظلمه بالنور اصلا, فهى نور على نور, ظهر فيها الحق تاما كاملا.
قال اللّه تعالى : اليوم اكمل ت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ((183)) .
وقـال ر: بـعثت لاتمم مكارم الاخلاق فدعوته نوريه صرفه مستويه معتدله استوى ظهور الحق فيها بجميع صفاته العلى .
وفى دعوه موسى (ع ) ظلمه ونور وستر وظهور, ولكن الستر اغلب , لان رعايه الخوف فيها غالبه .
الاترى ان بنى اسرائيل اذ اذنبوا ذنبا واخذوا باتخاذهم العجل كيف امرهم موسى بقتل انفسهم توبه , فـقـتـلـوا ا بذلك ؟
فهذا وامثاله من باب غلبه الخوف وتغليب قهر الحق على لطفه وسر نور اللطف بـظـلـمـه القهر, وذلك اقتضاه حال موسى (ع ), لان الحق تعالى تجلى عليه بصفه الهيبه والجلال , فلذلك كان هيبا مهيبا, وكان قلبه اشد تواضعا, لان تجليه كان ناريا وللنار نسبه الى الهيبه والجلال .
وفـى دعـوه عـيسى (ع ) غلبه النور والظهور, لان معنى الرجا غالب عليه , وتغليب لطف الحق على قـهـره وستر ظ حال عيسى (ع ), لان الحق سبحانه وتعالى تجلى عليه بصفه الانس والجمال , وكان تجليه نوريا بشاشا هشاشا.
وهاتان دعوتانى تحاذيان طرفى الافراط والتفريط.
فالحق المبين مستور بعض صفاته فيهما, غير مستور فى دعوه الاسلام , لاغلبه لاحد طرفى الخوف والـرجـا, فـاعتدلت فيها الصفات الجماليه والجلاليه , وذلك لاستوا قلبه واعتدال حاله بين طرفى الانـس والـهـيبه واستقامته على الصراطالمستقيم فليس فيها تسامح عيسوى ولاتشدد موسوى , فيقتص النفس بالنفس والطرف بالطرف والجرح بالجرح سوا,وتقبل التوبه بالندم حتى عز الارتداد بـالـشـرك والـكفر بتجديد الشهاده , وظهر الحق تعالى فيها بجميع صفاته مستويا,لايستتر بعضها ببعض .
و كـمـال الـرسـول ر فـى استوا قبول انوار تجلى الهيبه والانس والجلال والجمال والقهر واللطف وغيرها.
وتفطن من هذا سر ختم النبوه , لانه لم يبق نبا يكشف عن الحق ش ودعوته ر مشتمله عليه .
فدعوته جامعه فيها جميع الدعوات : شرقيه وغربيه , لاشرقيه ولاغربيه , ليليه نهاريه , سريه جهاريه .
وبـيـان ذلـك لاتـحـمـله المختصرات , فلنكتف بهذه الخاتمه من تفسير سوره الفاتحه , جعلها اللّه للمتصفحين وسيله الاهتدا, وللمهتدين ذريعه الاجتبا.
والحمد للّه رب العالمين , وصلى اللّه على نبينا محمد المصطفى صلاه دائمه النور الى يوم النشور, وسلم تسليمادائماابدا كثيرا.
ولقد فرغنا من تصحيح هذه الرساله فى تفسير سوره الحمد وتاويلها اول شهر رمضان المبارك سنه 1373هـش , واناالعبد سيد جلال الدين الاشتيانى .

 

next page

fehrest page

back page